المدنية في الواقع السياسي والمجتمعي (وحتى الديني) العراقي اتخذت مفهوما خاصاً بها . لم يكن موجودا من قبل بهذا اللفظ والمعنى .. الشخص المدني في العراق ببساطة هو الذي ليس لديه ولاء اعمى لحزب او شخصية او فكر او مذهب او دين معين .. بل يقوم بقياس الامور بعقله فإذا طابقت عقله وافق عليها، واذا لم تفعل ضرب بها عرض الجدار
المدني لا تحكمه قواعد الدين المتوارث من الاف السنين، ولا اعراف المجتمع .. ولكن البعض يعيب على المدنيين انهم "متعصبون" في هذا الجانب .. و هذا من وجهة نظري ليس صحيحا، المدنية ليست مذهبا ليتم التعصب له، ولكن اذا اراد المدني مكافحة التعصب الموجود (التعصب لشخصية او حزب او مذهب إلخ) ويرد بقوة، يظهر بمظهر المتعصب لمنهج المدنية، فهو "يرفض بشدة" كل ما يعرضه عليه الطرف الاخر من امور "لا منطقية" فقط لان مصدرها تلك الجهة التي يقدسها او يواليها. فهو يعرض الامور على عقله، فاذا لم توافق عقله يضرب بها عرض الجدار.
المدني العراقي في الغالب عند السنة هو شيعي .. و عند الشيعة هو سني او بعثي ، وعند غيرهم هو عميل او فاسق او ربما حتى ملحد او مرتد .. ولكن الحقيقة ان المدنية لا علاقة بهذه الاشياء .. لان المدنيين قد يكونوا من اصل شيعي او سني او غيره،ـ وقد يكون المدني متدينا او ملحدا او لا ديني او اي عقيدة اخرى دينية في باله وبينه وبين ربه ، ولكنهم في النهاية يؤمنون بدولة تقوم على اساس المواطنة والانسانية وليس فيها خطوط حمراء غير القانون.
المدنية ليست مذهبا، ببساطة هم كل من تنطبق عليه انه لا ينتمي إلى مذهب او فكر معين ،و لا يوالي شخصية معينة، ونتيجة لذلك يكون اعدائهم من جميع الاطراف الاخرى .. ولكنهم ليس بالضرورة ان يعادوا مجموعة معينة، بل يعادون فقط من يسلب الاخرين حقوق استخدام عقولهم.
مشكلة المدنيين إنهم بلا مرجعية او قائد .. وهذا بسبب الفكرة المتأصلة في اساس منهجهم الرافض لوجود شخصية او حتى قيادة موحدة، لذلك يكاد يكون من المستحيل توحيد نشاطاتهم الاجتماعية والسياسية وبالتالي يكون عملهم عشوائيا او متفرقا، و يكونون على شكل افراد متفرقين في المجتمع او المؤسسات .. ولا يمكن مثلا توحيد صفوفهم للخروج في مظاهرة مثلا بسبب عدم وجود قيادة مركزية.
لا يمكن ان يكون هنالك حزب خاص بالـ "مدنيين" مثلما توجد احزاب للمذاهب والطوائف والشخصيات الاخرى، لانهم ليسوا جماعة محددة واضحة المعالم، ولكن يمكن ان يكون هنالك احزاب عديدة تكون المدنية هي المحرك والدافع الاساسي فيها على اختلاف برامجها و طرقها في حل مشكلات البلد، فقط عندما لا يكون هذا الحزب مشوب بالطائفية او القومية او التقديس لشخصية معينة او ذو توجه ديني معين .. عندها سيكون مدنيا، لان لن يبقى ما سيرتكز عليه في برنامجه سوى مبدأ المواطنة واحترام القانون الوضعي.
المدنية قد تكون مرادفة لكلمة (العلمانية) .. ولكن في المفهوم العراقي العلمانية تم تشويه صورتها كثيرا، وصارت ترمز إلى اولئك الذين هم يقومون بازدراء الاديان، لذلك ظهر مفهوم المدنية، وهو يعني الإنسان الذي يحترم عقائد البشر وقد يعتقد هو نفسه باحدها، ولكنه لا يعترف بها كنهج سياسي او طريقة لحكم الدولة
شكرا