أمثال المسيح
منذ نشأة الكنيسة الأولي, أُطلقِتّ تسمية “مثل” علي كل قصة قالها المسيح له المجد, إيضاحًًا لتعاليمه, إلاّ أن في اللفظ اليوناني Παραβολή, نجد أساسًا فكرة المقارنة. ذلك أن العقلية الشرقية تميل إلي إستعمال المقارنة في الكلام والتعليم, كما تحبذ اللغز لأنه يُثير الفضول ويحمل علي البحث. وتعكس لنا الكتب المقدسة ولا سيما أقوال الحكماء (1) صدي تلك النزعات ومع ذلك فإن هذا ليس هو العنصر الجوهري لتفسير نوع الأمثال. علينا أن نفهم المثل كعرض تمثيلي لرموز أي لصور مقتبسه من الحقائق الأرضيَّة, لتعّبر عن الحقائق التي أوصي بها الله, والتي تحتاج في الغالب إلي المزيد من الشرح العميق.
الأمثال في الإناجيل: ـ
حوت الإناجيل الثلاث الأولي أو ما تعرف بالإناجيل الازائية, متى , مرقص, لوقا علي العديد من الامثال التي علّم بها المسيح له المجد والتي بلغ عددها 34 مثلاً موزعة كالاتي:
إنجيل متى : 16 مثلاً
إنجيل مرقص: 5 أمثال
إنجيل لوقا 21 مثلاً
حيث تكرر 5 أمثال ما بين إنجيلي متى ولوقا.
كما تكررت 3 أمثال ما بين اناجيل متى ومرقص ولوقا.
ومن الجدير بالذكر أن ق. يوحنا لم يرد أي من هذه الأمثال في إنجيله لكنه ذكر تعاليم مجازية هي أقرب إلي الأمثال مثل الحديث عن الراعي الصالح (يو1:10ـ6).
المسيح يتكلم بالأمثال ويفسرها: ـ
يخبرنا ق. مرقص في إنجيله عن الطريقة المفضَّلة للمسيح في حديثه مع اليهود وما كان يفعله مع تلاميذه أيضًا فيقول أنه “بدون مثل لم يكن يكلمهم وأما علي إنفراد فكان يُفسَّر لتلاميذه كل شيء” (مر34:4).
ولقد سبق أن إستخدام الإنبياء في العهد القديم حقائق الحياة اليومية لتوضيح تعاليمهم في معني التاريخ المقدس وجعلوا منها موضوعات قائمة بذاتها مثل الراعي, الزواج, الكرمة وهي كلها موضوعات نجدها أيضًا في الأمثال التي إستخدمها المسيح والمذكورة في الإناجيل. غير أنه إن كان محور هذه التشبيهات المسهبة يدور حول حب الله المجاني والعطوف من جهة, وتقاعس الشعب في جوابه من جهة آخر, (راجع اشعياء 1:5ـ7, هوشع, حزقيال16) وإن كنّا قد نجد أيضًا بعض الإشارات الدقيقة بخصوص موقف من مواقف الحياة الخلقية (أمثال18:4ـ19, 6:6ـ11, 4:15) أو بخصوص حالة إجتماعية معينّة (قضاه 8:9ـ15) إلا أنه في الإنجيل, نجد أن الأنظار تتركز علي تحقيق ملكوت الله النهائي في شخص يسوع المسيح. وهنا تكمن أهمية إستخدام الأمثال الخاصة بالملكوت (متى 1:13ـ5, 1:20ـ16, 33:21, 14:22, 45:24, 30:25).
ولأن سرَّ الملكوت المتحقق في شخص يسوع والمقدَّم في إطار من الجدة, لا يمكن ظهوره إلاّ تدريجيًا وعلي قدر طاقات المستمعين لتقبل المثل, من أجل هذا نري المسيح له المجد في بداية كرازاته يوصي بحفظ “السر المسياني” كما يشهد معلّمنا مرقص في إنجيله مرقص (34:1ـ43, 12:3, 43:5….).
من أجل ذلك أيضًا نجد إستخدام المسيح للأمثال التي فيما هي تعطي فكرة أولي عن تعليمه تدعو إلي التفكير وتحتاج إلي تفسير لفهمها فهيًا تامًا وهكذا نصل إلي تعليم ذي درجتين يشيرء ق. مرقص إليهما أشاره واضحة إذ يقول: “وبأمثال كثيرة مثل هذه كان يكلمهم حسبما كانوا يستطيعون أن يسمعوا, وبدون مثل لم يكن يكلمهم, وأما علي أنفراد فكان يفسر لتلاميذه كل شيء” (مرقص33:4ـ34).
فالإلتجاء إلي موضوعات مألوفة مثل موضوع الملك, حفل العرس, والكرمة, والراعي, البذار, يضع جميع مَنْ يسمعون علي الطريق, غير أن للتلاميذ الحق في تعمَّق التعليم الذي يقدَّمه لهم يسوع نفسه. ولهذا كانت أسئلتهم (متى10:13ـ13, 35:34 و51, 15:15). وتذَّكرنا هذه الأسئلة بما كان يحدث في العهد القديم حيث يُذكَر في سفر دانيال أنه طلب من الثلاث فتيه أن يطلبوا المراحم من قبل إله السموات من جهة هذا السر,… وحينئذٍ لدانيال كُشف السّر في رؤيا الليل”[2], أيضًا في هذه الرؤيا طلب دانيال من واحد من الوقوف أن يعرف الحقيقة فيقول عنه أنه “أخبرني وعرفَّني تفسير الأمور”[3].
ولهذا تبدو الأمثال وسيلة ضرورية لأنفتاح العقل علي حقائق الإيمان, فبقدر ما يدرك المؤمن السّر الموحى به, يسهل عليه فهم الأمثال وبالعكس, بقدر ما يرفض الإنسان رسالة المسيح يصعب عليه فهم أمثال الملكوت.
ولقد سجّل الإنجليون هذا الواقع, بعد أن أدهشتهم قساوة كثير من اليهود إزاء قبول تعاليم المسيح, فهم يشيرون إلي جواب المسيح علي التلاميذ, مستشهدًا بآية من اشعياء النبي. وتبرز الأمثال مغلقة علي الذين بإرادتهم يرفضون الإنفتاح علي رسالة المسيح: “فتقدم التلاميذ وقالوا له لماذا تكلّمهم بأمثال فأجاب وقال لهم لأنه قد أعطي لكم أن تعرفوا أسرار ملكوت السموات وأما لإولئك فلم يعط. فإن من له سيعطي ويزاد. وأما من ليس له فالذي عنده سيُوخذ منه. من أجل هذا أكلمهم بأمثال. لأنهم مبصرين لا يبصرون وسامعين لا يسمعون ولا يفهمون فقد تمت بينهم نبوة اشعياء القائلة تسمعون سمعًا ولا تفهمون ويبصرون ولا تنظرون لأن قلب هذا الشعب قد غلظ وأذانهم قد ثقل سماعها وغمضوا عيونهم لئلا يبصروا بعيونهم ويسمعوا باذانهم ويفهموا بقلوبهم ويرجعون شفتيهم”[4].
تفسير الأمثال: ـ
بالرجوع إلي ذلك الإطار الكتابي والشرقي, الذي تكلّم فيه يسوع وإذا نأخذ في الإعتبار رغبته في القاء تعليمه تدريجيًا, يسهل علينا أن تفسير الأمثال التي أخذت مادتها من وقائع الحياة اليومية العادية. وبنوع خاص من الأحداث الكبري عبر تاريخ البشرية المقدس مع الله. والتوجه العام في هذه الأمثال يغلب عليه ابراز طابع العلاقة بالله الآب وبالمسيح علي وجه الخصوص. لكن مهما كانت دقة المجاز فإن الشخص الرئيس يجب أن يشير في نهاية الأمر وفي أغلب الأحوال إلي الآب السماوي (مت28:21, لو11:15) أو إلي المسيح نفسه سواء أكان في رسالته التاريخية (” الزارع″. مت3:13, 24, 31) أو في مجده الآتي (“اللص” مت43:24, “السيد” في مت14:25, “العريس” في مت 1:25). وعندما يكون هناك شخصان رئيسيان فهما الآب والإبن (متى 1:20ـ16), 33:21ـ37, 2:22).
وهذا ما يوضح أن إعلان حب الآب للبشر المشهود له بإرسال إبنه إلي العالم هو الوحي الأسمي الذي أتي به يسوع. هذا هو هدف الأمثال التي تُظهر اللمسه الأخيرة التي يعطيها الملكوت الجديد لقصد الله بخصوص العالم[5].
د. جوزيف موريس فلتس