جعل الله فيهم خمسة أرواح
الجوهرة: 33- عن الأصبغ بن نباتة، قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين إنّ ناساً زعموا أنّ العبد لا يزني وهو المؤمن، ولا يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر وهو مؤمن، ولا يأكل الربا وهو مؤمن، ولا يسفك الدم الحرام وهو مؤمن، فقد ثقل عليّ هذا وحرج منه صدري حين أزعم أنّ هذا العبد يصلّي صلاتي ويدعو دعائي، ويناكحني واُناكحه ويورثني وأوارثه، وقد خرج من الايمان من أجل ذنب يسير أصابه؟
فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): صدقت سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يقول: والدليل عليه كتاب الله، خلق الله (عز وجل) الناس على ثلاث طبقات، وأنزلهم ثلاث منازل، وذلك قول الله (عز وجل) في كتاب: { أَصْحَابُ الْمَيْمّنَةِ... وّأَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ... وَالسَّابِقُونَ}من سورة الواقعة: 8-10.
فأمّا ما ذكر من أمر السابقين: فإنّهم أنبياء الله مرسلون وغير مرسلين، جعل الله فيهم خمسة أرواح: روح القدس، وروح الايمان، وروح القوّة،
وروح الشهوة، وروح البدن، فبروح القدس بُعثوا أنبياء مرسلين وغير مرسلين، وبما علّموا الأشياء، وبروح الايمان عبدوا الله ولم يشركوا به شيئاً، وبروح القوّة جاهدوا عدوّهم، وعالجوا معاشهم، وبروح الشهوة أصابوا لذيذ الطعام ونكحوا الحلال من شباب النساء، وبروح البدن دّبوا ودّرجوا، فهؤلاء مغفور لهم
مصفوح عن ذنوبهم، ثمّ قال: قال الله(عز وجل): {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَات وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ
وَ أَيَّدْنَاهُُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}.من سورة البقرة: 253.
ثمّ قال في جماعتهم:{ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوح مِنْهُ}.من سورة المجادلة: 22.
يقول: أكرمهم بها ففضّلهم على من سواهم، فهؤلاء مغفور لهم مصفوح عن ذنوبهم.
ثمّ ذكر أصحاب الميمنة: وهم المؤمنون حقاً بأعيانهم، جعل الله فيهم أربعة أرواح: روح الايمان، وروح القوّة، وروح الشهوة، وروح البدن، فلا يزال العبد يستكمل هذه الأرواح الأربعة حتّى تأتي عليه حالات، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين ما هذه الحالات؟ فقال(عليه السلام): أمّا أولاهنّ فهو كما قال الله(عز وجل):
{ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلّى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْم شَيْئاًْ} من سورة النحل: 70.
فهذا ينتقص منه جميع الأرواح، وليس بالذي يخرج من دين الله، لأنّ الفاعل به ردّه إلى أرذل عمره، فهو لا يعرف للصلاة وقتاً ولا يستطيع التهجّد باليل ولا بالنهار، ولا القيام في الصف مع الناس، فهذا نقصان من روح الايمان وليس يضرّه شيئاً، ومنهم من ينتقص منه روح القوّة فلا يستطيع جهاد عدوّه ولا يستطيع طلب المعيشة، ومنهم من ينتقص منه روح الشهوة فلو مرّت به أصبح بنات آدم لم يحنّ إليها ولم يقم، وتبقى روح البدن فيه فهو يدبّ ويدرج يأتيه ملك الموت، فهذا الحال خيرٌ، لأنّ الله (عز وجل) هو الفاعل به، وقد تأتي عليه حالات في قوّته وشبابه فيهمّ بالخطيئة فيشجّعه روح القوّة ويزيّن له روح الشهوة ويقوده روح البدن حتّى توقعه في الخطيئة، فإذا لا مسها نقص الايمان وتفصى منه فليس يعود فيه حتّى يتوب فإذا تاب تاب الله عليه وإن عاد أدخله الله نار جهنّم.
فأمّا أصحاب المشأمة: فهم اليهود والنصارى، يقول الله (عز وجل):
{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنّاءّهُمْ}من سورة البقرة: 146-147. يعرفون محمّداً والولاية في التوراة والانجيل كما يعرفون أبنائهم في منازلهم،
{ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيّكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعلَمُونَ، الْحَقُّ مِنْ ربِكَ} من سورة البقرة أنّك الرسول إليهم، { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}من سورة البقرة فلمّا جحدوا ما عرفوا ابتلاهم الله بذلك، فسلبهم روح الايمان وأسكن أبدانهم ثلاثة أرواح: روح القوّة، وروح الشهوة، وروح البدن، ثمّ أضافهم إلى الأنعام فقال:
{ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالا نْعَامِ} من سورة الفرقان:44. لأنّ الدابة إنما تحمل بروح القوّة وتعتلف بروح الشهوة، وتسير بروح البدن، فقال السائل: أحييت قلبي بإذن الله يا أمير المؤمنين.