العوائق الـمتعددة والرهان الثابت.
لم تعد للتقسيم السابق الخاص بالعصور التاريخية أهمية بعد الآن، كما لم تظهر للدول المتخلفة مواقع على خارطة العالم الجديد، الذي يحدّد معالمه الحضور التكنولوجي والتفوق الاقتصادي والانتشار الثقافي.. هذا ما يمكن استخلاصه من المؤتمر العلمي المنعقد بالولايات المتحدة الأمريكية، الذي قسّم فيه الحاضرون التاريخ إلى فترتين اثنتين، ما قبل الانترنيت وما بعده، أي أن فتوحات الانترنيت هي المعيار الوحيد لقياس مدى تواجد بلد ما في الفعل الحضاري للعالم ، وإذا حاولنا نحن التموقع في هذا التاريخ، فإننا سنجد أنفسنا خارج الزمان وخارج التاريخ، أين نحن إذن ؟!.
ــ "نحن في الفترة الرمادية ما بين الظلمة والضوء"،
ثم يوضح ذلك بأن العرب يضعون أقدامهم على عتبة الحضارة لكنهم لا يستطيعون دخولها لأن مشاكل العتبة (الباب) شغلتهم عن ذلك، ومشاكل العتبة عندنا أكبر من أن تحصى، ولا تنحصر في قضايا التراث والمعاصرة والسلطة والدين والمرأة والحرية والجمع بين المقدس والمدنس. هذه المسائل التي أسالت حبرا حمضيا يفتت الطوب ويبقي الحصى ساهمت في توسع دائرة الحيرة وفي تأجيج الأسئلة الحارقة التي ما فتئ المهتمون من شريحة المثقفين يبحثون عن أجوبة كافية لها دون جدوى... بل تمتد مشاكل الإنسان في بلداننا إلى أعماق ذاتيته المخمورة نتيجة إحساسه المخدّر ووعيه المغيّب، وتتفاوت درجة غياب العقل من قطر لآخر لكنها تتجلى بوضوح عند البلدان التي يحكمها المقدس بسوط المدنس، ومثال على ذلك الشرعية الدينية أو التاريخية التي تسهر على امتدادها الزمني ديكتاتورية النخبة، التي بدورها تنتج أجيالا معوقة التفكير خاطئة الاختيار تتصرف وفق إرادة الوصاية وهذا ما يحدث أثناء التصويت على مشروع ما أو خلال الانتخابات. والإنسان في هذه البلدان سيما العربية، ونظرا لما ذكرناه نلاحظ أنه استغل استغلالا إيديولوجيا سيئا غير حضاري في كثير من الأحيان، فقد كان كالوعاء الذي تشحن فيه مواد مختلفة وبطريقة آلية وعند تعفنها لسبب أو لآخر تفرغ منه بطريقة عشوائية، مما جعل هذا الوعاء قابلا لكل الاحتمالات حتى الفناء..ومع تعاقب شحنات القومية العربية والإيديولوجية الاشتراكية والإسلاموية وقبلها الوطنية على الإنسان العربي بما تحمله هذه التيارات من تناقضات ومناورات جعلت منه "روبو" تجارب له استعدادا واحدا هو"الفشل" وبعد تكرار الفشل تكوّنت القابلية للانهيار ونتج عنها الاختلال في سلم القيم الاجتماعية وصار المواطن عندنا هيكلا خاويا بل حطاما تائها يعيش كالمخبول، عاطفي الأحكام، أناني المعاملات بهيمي الطموح...
وإذا كانت الحضارة تقاس درجاتها بمقدار تذوّق الشعوب للفن والجمال، فإن شعوبنا تمتلك مناعة قوية ضد الحضارة مع تفاوت بسيط بين شعب وآخر، وللجزائر الحظ الأوفر في هذه المناعة لأن الجهود المبذولة من قبل المخططين المنفذين (مجالس وحكومات) ومنذ الاستقلال لم تضف إلى جوهر التحضر والنمو الفكري سوى قشور ذات مساحيق سرعان ما اندثرت وبقي المواطن يقتات من بقايا التراث وما أكثر نقائصه، وفي المقابل فإن النظام السياسي تميّز بإضافة فكر التدجين بواسطة المناهج الدراسية والتهجين عن طريق وسائل الإعلام فكرا وسلالم الإدارة لغة وسلوكا...
العالم من حولنا يتطور بسرعة الزمن. عاش النهضة ثم الحداثة ويعيش الآن ما بعد الحداثة، المعلومات التقنية تتكاثر في تناسل عجيب وتتكدس في ذاكرة العالم الجديد ونحن نائمون رغم أن بعض الدول كانت تشبهنا مثل كوريا وماليزيا ركبت قطار الحضارة وحدّدت أجلا قريبا للوصول وهي فاعلة لا محالة...
لقد استبشرنا خيرا عندما بلغنا أن تونس أحدثت وزارة للمعلوماتية وتمنيت أن تعمّم هذه الفكرة على جميع الحكومات.
الدكتور فهمي هويدي يتساءل في أسلوب طريف عن الإنسان العربي الذي يريد المستقبل وهو لا يمتلك حاضرا، عن الذين يتحدثون ويلغطون حول القرن الجديد وهم الآن غائبون... وكأنه يقول أن التطور ليس مشكلة لأننا نحن مشكلة أنفسنا، كما أن الروائي عبد الرحمن منيــف وهـو يتحدث عن تجربته الإبداعية في إحدى الجامعات العربية قد أماط اللثام عن الراهن العربي وحدّد أسباب الانتكاسة في البترول مُتّهما إياه بالمساهمة في تخلف العالم العربي، غير أنه لم يذكر أن نعمة البترول تحوّلت إلى نقمة، لأن اليد التي مسكتها لا تحسن القيادة، وبالتالي أساءت استخدامها كما فعلت عندنا، وهي تحوّل نعمة الحرية والديمقراطية إلى نقمة لم يشهد لها ماضي البشرية مثيلا إلاّ نادرا... لأن الأيدي التي كانت تخرج مسرحية الديمقراطية غير مؤهلة علما وأخلاقا لممارسة هذه الوظيفة.
هذه بعض مشاكل العتبة المعيقة دخولنا القرن الجديد بهامات مرفوعة، مشاكل أنتجت التبعية والانكسار، حتى لا أقول الانبطاح على حد تعبير الأستاذ المرحوم مولود قاسم. الحل لا تأتي به معجزة بعد عقود الاستهلال التي عاشتها شعوبنا حتى صارت مضرب المثل في التطرف والتخلف.
هذه الحالة التي قد يستعذبها الحكام لأنها تمدّد عمرهم السياسي الاصطناعي تحت أعذار ومبررات مختلفة... وأمام هذه الثنائية القائمة(شعوب حكام) لا بد من المراهنة على الطرف الأول فهو الأرجح، لأن احتمال تغيير الحكام الآن غير محمود العواقب فالحاكم الذي لا يريد تغيير نفسه يسعى إلى تغيير شعبه. كما يقول أحد مفكري أمريكا الجنوبية، وقد صدقت الرؤيا..
إن التغيير الأفقي (تغيير المحكومين) يتطلب صبرا وانتظارا لكن نتائجه مضمونة إذا احترمت الأشواط والمراحل وأولها الطفولة، لأن أعظم ثروة في أي بلد هي الطفولة المبدعة.
والأطفال سيصدّرون في الغد لمجتمعهم ما زرع فيهم اليوم. ومن هنا ينبغي إعطاء الأولوية للأطفال المبدعين في شتى المجالات، لأنه بأيديهم وحدهم جواز السفر إلى الحضارة وفي أسرع وقت، أي أنهم ينتجون الـمعرفة ويـدخلون بها العالم المتطور.