بين الأشجار الكثيفة في المدينة التركية إسطنبول، تطل قبة آيا صوفيا شامخة مشرفة على البوسفور، تناطح مآذنها السحاب، مقارعة المآذن الست المقابلة لها في المسجد الأزرق.
تقف جدرانها بلونها القرمزي الباهت المائل للوردي، حاملة بين ثناياها الكثير من القصص والروايات، بداية من لحظة إنشائها ككنيسة، وتهدمها واحتراقها أكثر من مرة، مروراً بالحقبة التي تم فيها تحويلها لمسجد والإضافات التي لحقت بها، وانتهاء بوضعها الحالي كمتحف شاهد على تاريخ المنطقة يستقطب الزوار والسياح من أنحاء العالم على مدار السنة، وخاصة بعد أن حولها مصطفى كمال أتاتورك في عام 1935م إلى متحف يضم المئات من الكنوز الإسلامية والمسيحية التي لا تقدر بثمن.
أيا صوفيا
تزهو "آيا صوفيا" بمبناها المهيب في مكان بارز على أعلى ربوة مطلة على نقطة التقاء مضيق البوسفور بمضيق القرن الذهبي في القطاع الأوروبي من مدينة اسطنبول التركية.
و"آيا صوفيا" التي تعد من أهم متاحف تركيا حالياً تضم بين جدرانها تراثاً عريقاً لحقبات تاريخية مرت، تبدل فيها دور الصرح من كنيسة ظلت لفترة 921 سنة تقوم بمهام الكنيسة الشرقية في العالم القديم وترعى المذهب الأرثوذكسي، ونالت كل الاهتمام والرعاية من مسيحيي الشرق ومناطق شمال شرق أوروبا وهضبة البلقان علاوة على روسيا القيصرية.
ومن بعدها تحولت مسجداً لفترة 481 سنة فكانت محط اهتمام المسلمين. واليوم تتعالى النداءات لإعادة المتحف ليكون مسجداً لمسلمي تركيا الذين يشكلون الغالبية العظمى فيها، فعلى الرغم من كثرة الجوامع في تركيا، خصوصا في اسطنبول يتوق المسلمون شغفاً لإعادة الصلاة في جامع "آيا صوفيا" الرمز الهام في تاريخ -المدينة وفي إسلامهم.
ومنذ منتصف الثمانينات ظهرت مجموعة دينية في اسطنبول من الشباب تقوم بحركات اعتراض ومقاومة أمام الجامع بين الحين والآخر، لحث الحكومة التركية على إعادة الصلاة في الجامع، ولكن قوات الأمن تعتقل أفرادا من هذه المجموعة ويصدر القضاء التركي أحكاماً بالسجن على البعض منهم. وقد سبق وأن أعلن نجم الدين أربكان الزعيم الإسلامي التركي أكثر من مرة خلال الحملات الانتخابية التي أجريت منذ عام 1989م عن نيته في إعادة فتح الجامع للصلاة حال فوزه بأغلبية المقاعد البرلمانية وتشكيل حكومة منفردة.
آيا صوفيا .. البداية كنيسة
كان جامع آيا صوفيا وتعني "الحكمة المقدسة" في الأصل كنيسة تاريخية، أول من بناها في عام 360م الإمبراطور قسطنطين الأكبر، وكانت تعرف باسم الكنيسة الكبيرة نظراً لوجود كنيسة أخرى تعرف بنفس الاسم. وبعد تدميرها وحرقها في عام 404م قام الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني ببنائها سنة 515 م، لكنها دمّرت من جديد إثر ثورة نيكا في عام 532م.
من بعده أعاد تشييدها الإمبراطور جوستنيان في القرن السادس، وهناك حكايات أسطورية تحكي سبب إعادة بنائها وهو أن الإمبراطور رأى في منامه رجلا عجوزا وقف في موضع المسجد الحالي، وحمل بيديه صينية عليها خريطة ـ البناء وأمره بتشييد كنيسة حسب مواصفات الخريطة، وعندما أفاق الإمبراطور من نومه ـ استدعى مهندسه المعماري الذي كان قد رأى الحلم ذاته وبنى هذه الكنيسة.
بدأ جوستنيان في بناء هذه الكنيسة في النصف الثاني من عام 532م، منجزاً إياه بحفل تكريس في 26 كانون الأول/ ديسمبر عام 537م. لم يشأ الإمبراطور جوستنيان أن يبنى كنيسة على الطراز المألوف بل كان يميل لابتكار الجديد، وأستدعى لهذا الغرض من ترالبس في آسية الصغرى، ومن ميليتس الأيونية، أنثميوس وأزدور أعظم المهندسين الأحياء، ليضعا رسوم البناء ويشرفا على تشييده. ولم يتبع المهندسان شكل الباسلقا التي جرت عليه التقاليد، بل وضعا للبناء تصميماً تكون صرته قبة واسعة لا ترتكز على جدران بل على أكتاف ضخمة، وتسندها نصفا قبتين من كلا الجانبين. واستخدم في العمل عشرة آلاف عامل، وأنفق عليه 320 ألفا رطل من الذهب (134 مليون دولار أمريكي)، وهو كل ما كان في خزانة الدولة، وأمر حكام الولايات بأن يبعثوا إلى الكنيسة الجديدة بأجمل ما بقي من بين حافاتها المستديرة وقاعدتها المربعة.
ولم تحلّ هذه المشكلة المعمارية قبل ذلك الوقت حلاً أكثر توفيقاً من هذا. وقد وصف بروكبيوس القبة بأنها: "عمل مجيد يبعث الروعة في النفوس ... وهي لا تبدو قائمة على ما تحتها من البناء بل تبدو كأنها معلقة بسلسة من الذهب في أبراج السماء". وقد جلب الأحجار لبناء الكنيسة والأعمدة والرخام من مصر وبعلبك وأوبْوا وأثينا وروما، حتى قيل: "إن هذه البناية لم يشهد مثلها منذ آدم، ولا يمكن تشييدها بعد الآن" [1].
آيا صوفيا مسجداً
احتل جامع آيا صوفيا مكانة بارزة طوال عصور الدولة العثمانية، وأولى السلاطين كل الاهتمام والرعاية به خصوصاً أن السلطان محمد الفاتح كان قد صلى ركعتي شكر خارج الكنيسة بعد فتح القسطنطينية. وأمر بتحويلها لجامع خلال ثلاثة أيام فأقيمت أول صلاة جمعة داخله. وتشير كل مصادر التاريخ والروايات المتناقلة بين ألسنة الأتراك المسلمين حتى اليوم، إلى أن تحويل الكنيسة لجامع قد تم في نفس يوم الفتح في جمادى الأولى 857هـ / مايو 1453م، وأضيف لها منبر ومئذنة من الخشب بفتوى من شيخ الإسلام وعلماء الإفتاء في الدولة العثمانية، حين واجه المسلمون مشكلة في أداء صلاة يوم الجمعة والصلوات الجامعة.
فمع ظهور حاجة شديدة لأداء الصلاة الجماعية لدى المسلمين الفاتحين في منطقة مسيحية تخلو تماماً من المساجد أو الجوامع، والوضع في الاعتبار الظروف الطبيعية للمدينة من حيث الطقس البارد والممطر طوال السنة وثلوج موسم الشتاء، كل تلك الظروف كانت وراء صدور فتوى جواز تحويلها لجامع والاستفادة منها بدلا من تركها على حالها المهجور.
قام السلطان محمد الفاتح بإصدار أوامره السلطانية بإزالة الصليب من أعلى القبة أو تلك الموجودة في أماكن بارزة، وبنيت مئذنة في جدار الكنيسة من الخارج، ووضع منبر خشبي في الجانب الأيمن من رواق الصلاة، وتركت الزخارف والنقوش والرموز المسيحية، صور عيسى ومريم عليهما السلام، على الجدران والسقف دون تغيّر وحتى يومنا هذا. وكان الأتراك قد وضعوا غطاءً فوق هذه الصور، ولكنهم كشفوا عنها عندما أصبح المبنى مُتْحَفًا، ووُجِدت كذلك صور جميلة يمثل بعضها شخصية المسيح والعذراء، وصور لعدد من الحكام.
كما وضع العثمانيون مجموعة من اللوحات القرآنية، علاوة على أربع لوحات كتابية ضخمة دائرية الشكل تقريباً في أعلى الأعمدة الأربعة الرئيسة وفي بطن القبة من جهة المحراب، كتبت عليها كلمات "الله، محمد، أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي".
آيا صوفيا .. تحفة فنية تاريخية
كان بناء كنيسة آيا صوفيا على الطراز البازيليكى المقبب domed Basilica، وهو يأخذ شكلاً مستطيلاً يبلغ طوله 76 متراً من الشرق إلى الغرب و 72 متراً من الشمال إلى الجنوب، وتقع القبة الكبرى فوق وسط المبنى وترتفع عن الأرض بين 60 و55 متراً، أي أنها أعلى من قبة معبد البانثيون، وأبعاد أقطارها 87 و30 مترا بين الشرق والغرب، و87 و31 متراً بين الجنوب والشمال، وتغطي مساحة أرضية تعادل 700 متر مربع بأضلاع 70 ـ 100متر.
وفي الوقت الذي استخدم حجر البازلت والجرانيت في بناء الحوائط أو الجدران الأساسية، فإن القبة المركزية تستند على أربعة أعمدة جرانيتية ضخمة ومستديرة قطرها حوالي 3 أمتار عالية الارتفاع، وللجامع باب واحد كبير مفتوح لجهة الغرب، ولا يؤدي مباشرة لصحن الجامع الداخلي، وإنما يمر الإنسان بساحة مستطيلة الشكل قبل دلفه للداخل.
في نهاية هذه الساحة المستطيلة من جهة الشمال، يقع باب يؤدي إلى السلم الداخلي المؤدي للدور العلوي، وهو سلم فريد من نوعه يقع داخل المبنى، حيث لا يشتمل على درجات تصاعدية، وإنما عبارة عن سلم حلزوني واسع يرفع المرء لأعلى بطريقة بسيطة وتدريجية تعتمد على السير في دهاليز حلزونية أرضيتها تأخذ شكل مطلع أرضي مسطح.
ظاهرة الطابق العلوي
ومن داخل آيا صوفيا يطالع المرء النوافذ الزجاجية الملونة الموجودة في الحائط المتجه ناحية القبلة، ويتميّز هذا البناء التاريخي بظاهرة الطابق العلوي، وقد سار العثمانيون على هذا النمط البنائي في معظم الجوامع والمساجد التي بنيت بعد فتح إسطنبول وحتى يومنا هذا. وهذا الطابق أو ما يشبه الشرفة تحيط بالجوانب فيما عدا جانب الشرق حيث المحراب. وما زالت صور عيسى ومريم عليهما السلام تحتل مكانهما في بطن القبة والجدران الداخلية العليا للجامع حتى اليوم دون تغيّر أو إزالة.
قبة كنيسة آيا صوفيا
قبة كنيسة آيا صوفيا رائعة الجمال، وقد اعتبرت تطوراً في ذلك الوقت فقد كانت قبة ضخمة ليس لها مثيل من قبل، تبدو كأنها معلقة في الهواء. وكان ذلك أمراً طبيعيا إلى حد بعيد فقد أصبح لدى المهندس البيزنطي القدرة والخبرة القديمة الواسعة والمعرفة لابتكار ما هو لافت وجديد. سبق عمراني: جمعت كنيسة آيا صوفيا العديد من الأفكار المعمارية التي كانت موجودة في ذلك الوقت، بل هي تعتبر قمة المعمار البيزنطي في مجال البازيليكات.
فالكنيسة مستطيلة الشكل على الطراز البازيليكى، بالإضافة إلى وجود القبة في المنتصف على جزء مربع. ترسو فوق الصالة الرئيسية للمتحف القبة الضخمة التي تستند على المبنى وكأنه عبارة عن دعامات ضخمة تحمل فوقها عقود كبيرة تحصر بينهما المقرنصات التي تحمل قاعدة القبة. وتستند القبة من الشرق والغرب على أنصاف قباب ضخمة وترسو بدورها على عقود ودعامات سفلية تخفف الضغط على الجدران. القبة من الداخل مغطاة بطبقة من الرصاص لحمايتها من العوامل الجوية، وتفتح في أسفلها النوافذ للإضاءة.
ويوجد بالفناء درج يؤدي إلى الطابق العلوي المخصص للسيدات، أضيف لهذا المركز الديني بعد ذلك مجموعة من المباني الدينية الملحقة به والتي كانت تتصل بطريقة ما بالمبنى الرئيسي، فهناك الكنائس الصغيرة أو Chapels التي تحيط بالمبنى والعديد من الحجرات سواء كانت لرجال الدين أو لخدمة أغراض الصلاة.
كان الاهتمام موجهاً نحو تجميل المبنى وزخرفته بدرجة كبيرة من الداخل، وقد استغل جستنيان جميع إمكانيات الإمبراطورية لزخرفة وتزيين المبنى، فجزء كبير من الحوائط مغطى بألواح من الرخام بأنواع وألوان متعددة، كما زينت السقوف بمناظر رائعة من الفرسكو والفسيفساء وبالرغم من أن معظم المناظر قد غطيت في العصر التركي بطبقات من الجبس ورسم فوقه زخارف هندسية والخط العربي إلا أن كثيرا من هذه الطبقات سقطت وظهرت المناظر القديمة أسفلها.
ولدى زيارة آيا صوفيا، يلاحظ المرء أن هناك الجوانب والدهاليز المظلمة فيها، فلا يمكن تمييز جدرانها أو النقوش والكتابات والرسوم الموجودة عليها حتى في منتصف النهار. والأمر نفسه يمكن رصده في المحراب الذي كان مذبح الكنيسة في السابق، حيث تكسوه الظلمة نهاراً.
تتمتع "آيا صوفيا" المسجد الكنيسة المتحف، برهبة لا مثيل لها. فعندما تراها من البحر تجدها شامخة يقابلها المسجد الأزرق. وعندما تزورها تتنشق في أرجائها عبق الماضي، وكأنك تفتح كتب التاريخ على صفحات لا تعد ولا تحصى. وتستمر "آيا صوفيا" باستقبال الزوار من شتى أصقاع الأرض، لتعرفهم على آية في الفن العمراني الزاخر بالفخامة والعظمة [2].
آيا صوفيا .. صمود البناء
قام المهندس التركي أحمد جقمق من جامعة برنستون بدراسة تحمُّل أيا صوفيا للزلازل، عندما اهتزت كل اسطنبول بزلزال عام 1992م، فوضع أجهزة حساسة في كل البناء، ثم قام بإدخال المعلومات إلى الكمبيوتر، ثم أجرى اختبارا تخيليا؛ فيما لو تعرضت المنطقة لزلزال مخيف من عيار 7.5 ريختر؟!! وكانت النتيجة صمود البناء؟؟
ولكن الاختبار الفعلي جاء في آب/ أغسطس عام 1999م، عندما هلك آلاف الناس تحت الأنقاض، ويومها بان في الامتحان الزيف من الحقيقة، فاهتز كل شيء بما فيها أيا صوفيا، ولكن لم يسقط منها حجر، ولم يتصدع جدار [3].
[1] انظر التفاصيل في ول ديورانت: قصة الحضارة، تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر، ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين، الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، عام النشر: 1408 هـ - 1988م، 12/ 263- 264.
[2] جامع آيا صوفيا Hagia Sophia Mosque نقطة تلاقي الحضارتين الإسلامية والمسيحية، تقرير في شبكة المسافر.
[3] خالص جلبي: متحف أيا صوفيا في اسطنبول، جريدة الاقتصادية، العدد 5595، الأربعاء 9 صفر 1430 هـ/ الموافق 4 فبراير 2009م.
قصة الاصلام