طاووس ملك في الديانة اليزيدية :
تقوم الديانة اليزيدية على فكرة إن الله تعالى خلق الملائكة السبعة وجعل من طاووس ملك رئيسا عليهم لأنه الملاك العابد الوحيد وسيد والموحدين على هذه الأرض الذي كافأه الله على عدم تفريطه في عبادته وفي وحدانيته لله بان أوكل الله تعالى إليه مهمة إدارة شؤون الكون وتنظيمه , ودور رئيس الملائكة في الفكر الديني اليزيدي يختلف عنه في الأديان الأخرى اختلافا كليا , فلا وجود لفكرة اله للشر ولا وجود للإبليس وان الله تعالى لم يغضب على رئيس ملائكته ولم يطرده من الجنة وان الديانة اليزيدية لا تعبد الإبليس كما يظن الكثير لأنه لا يعبد النقيضين في وقت واحد .
ويلاحظ إن النصوص الدينية لم تبحث مسالة طبيعة طاووس ملك ولا مسألة السجود من عدمه مما يزيد من حالة الغموض والإرباك لدى الباحثين وما دمنا نبحث في موضوع طاووس ملك فان من البديهي أن ينصب تركيزنا على طبيعته وتحديد صفاته ونتائج عدم سجوده بوصفها القاعدة الأساسية في رسم ملامح الديانة اليزيدية مع إن النتائج لاتقدم إجابات كافية وواضحة , وبكلمة أخرى فان فرضية طرد إبليس من الجنة لعصيانه أمر ربه غير واردة في الفكر الديني اليزيدي لأنها مسالة تحمل في محتواها الكثير من الشك ، أما السؤال الذي يتعلق بطبيعة طاووس ملك فهي مسالة ترتبط باللاهوت أو علم الكلام والفلسفة الدينية أكثر من ارتباطها بالمفهوم الديني لان الأسئلة المطروحة بشان طبيعة طاووس ملك أو الإبليس هي كثيرة و تتداخل مع بعضها بتشابك معقد و بمراحل تتوالد بعضها من البعض كمسألة أيهما أقدم في الوجود البيضة أم الدجاجة , هذه المراحل في الأسئلة والتطور في المفاهيم ستستمر إلى ما لانهاية لان هناك تيارات واتجاهات مختلفة ومتباينة تفصح عن مواقف يصعب التوفيق بينها ولن تؤدي إلا إلى التعصب والسفسطة والمهاترات والدخول في متاهات و دوائر مغلقة .
أما مصطلح طاووس ملك ذلك الرمز الديني المقدس الذي يعد أهم سمات العقيدة اليزيدية فقد اختلف الكتاب والباحثون قديما ولا زالوا للان بشأنه , فمنهم من اعتبره( اهريمن ) أو (إبليس ) اله الشر و المخلوق الجان الذي وسوس لآدم وحواء وعصى أمر ربه , ومنهم من عده من الملائكة المخلوق من نور الله وهناك من يؤمن بان الله تعالى قد تجسد بصورة طاووس ملك وبالتالي فانه يمثل صورة من الالوهية أو اسم من أسماء الله أو انه الإله يزدان (15) وآخرون يقولون بأنه ميثرا اله الشمس(16) أو انه الإله نابو(17). هذا الاختلاف والتناقض في الآراء حول طبيعة طاووس ملك وعدم الاتفاق على صيغة محددة بشأنه مرده الى انعدام أو ندرة المصادر الدينية التي يمكن الاحتكام إليها كمرجع موثوق في هذا الشأن , مما فتح باب الاجتهادات على مصراعيه لان تعاليم الديانة اليزيدية غير مدونة ولا تستند على أي كتاب ديني بل هي مجموعة أعراف وشعائر و تعاليم دينية شفاهية محفوظة في الصدور (علم الصدر) الذي يضم التراث الديني والتي يتناقلها القوالون أبا عن جد وهم المسؤولون عن حفظها وتلاوتها في المناسبات الدينية والاجتماعية مع إن هذه الأقوال والنصوص الدينية لاتقدم الإجابة الدقيقة عن طبيعة طاووس ملك ولاعن تلك التساؤلات عن شخصيته , مع احتمالات تعرض اغلب تلك النصوص والأقوال للكثير من التغييرات والإضافات والتحويرات وضياع الكثير منها خلال المراحل الزمنية المنصرمة بسبب التداول الشفهي وحفظها في الصدور وعدم التدوين , فلم يبق سوى الاجتهادات والأبحاث الشخصية للمهتمين بهذه المسالة والذي اغلبهم لعجزهم الذاتي اتجهوا الى الأفكار في المعتقدات الأخرى يستمدون منه ما يعينهم على فهم حقيقة هذه الشخصية وليس لنا نحن الخلف إلا أن نأخذ تلك الأفكار ونقلد السلف لنعترف بدورنا بقصورنا الذاتي ونتلقف الفكرة بعد الفكرة من الكتب الدينية الأخرى كيفما اتفق دون مراجعة أوتبصر او روية مما أدى الى ننتهي بالمناقشة حول هذه المسالة الى أن يصبح تحديد ابرز مقدساتنا الى ما يشبه الوعاء يتسع لكل نمط فكري ومجال اختبار وميدان تجارب لاجتهادات متباينة ومتضاربة بل ومتضادة وبالتالي تكوين صورة مشوهة عن ديننا وعن عقيدتنا يتسم بالتبعية اللامسؤولة لجملة أراء لاتمت بصلة إليه .
وبالرغم من أهمية الأبحاث النظرية في المسائل الدينية فان الاجتهادات أو المجادلات قد تزعزع الثوابت الدينية وتجعلها عرضة للأفكار الغازية والتحويرات والإضافات وذلك لان الاجتهاد يعتمد أساسا على العقل والتفكير بينما الدين (أي دين كان سماويا أو غير سماوي) فانه يعتمد على الإيمان والتسليم بما يأمر وينهي عنه , وينبغي بهذا الصدد التمييز بين فلسفة الدين وبين اللاهوت وعلم الفقه والكلام , فمجال اللاهوت والفقه هو البحث في فلسفة الدين الذي يدافع عن عقيدة هذا الدين أو ذاك بالحجة والمنطق أما فلسفة الدين فإنها تعنى بدراسة وتحليل المفاهيم العامة التي تستخدمها الأديان والبحث في الظواهر العامة للتدين (18) , وان البحث في فلسفة الدين له ثلاثة اتجاهات تاريخية وسايكولوجية وفلسفية , فالاتجاه التاريخي غايته دراسة أصل الأدبان وتطور الفكرة الدينية والاتجاه السايكولوجي المعرفي غايته وصف الحالات النفسية التي تبنى عليها الحياة الدينية أما الاتجاه الفلسفي فمهمته المطالبة بأدلة تبرز النظريات والعقائد الدينية (19) .
وبالعودة إلى مسالة طاووس ملك فان الملاحظ بهذا الصدد إن النصوص الدينية لم تبحث مسألة طبيعة طاووس ملك ولا مسألة السجود وما دمنا نبحث في هذا الموضوع فان من البديهي أن ينصب تركيزنا على طبيعته وتحديد صفاته وهل اجتاز محنة الاختبار الإلهي بمكافأة الله له ومن ثم تسليمه شؤون الكون والخلق باعتبارها القاعدة الأساسية في تحديد مفهوم الديانة اليزيدية مع أن النتيجة لاتقدم إجابات كافية وواضحة , وبسبب دفاع الصوفية عن إبليس كالحلاج والغزالي وابن العربي فقد تم الخلط بينه وبين طاووس ملك فقد قال عنه الحلاج في كتاب الطواسين "كان أعلمهم بالسجود وأقربهم من المعبود " ثم يذكر عن لسانه مخاطبا الله "إن منعتني عن السجود فأنت المنيع وان أردت أن اسجد له فانا المطيع "(20) , هذا الإبليس الذي دافع عنه الصوفيين هو غير طاووس ملك الذي هو أول الملائكة الذين خلقهم الله من نوره والذي نجح في الاختبار الإلهي ولم يسجد لآدم متذكرا وصية ربه بعدم السجود لأحد غيره فجعله الله رئيسا للملائكة فكان أمر السجود بذلك أمر اختبار للملائكة لم ينجح في هذا الاختبار إلا رئيسهم الذي نفذ مشيئة الله بعدم السجود لآدم ولو شاء الله له السجود لسجد حالا لأنه لاراد لمشيئة الله في إرادته التي هي (كن فيكون ) ولا حرية لرئيس الملائكة في اختيار معصية ربه ولو شاء الله له السجود لهداه إلى الاختيار الصحيح لان (الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء ) (21) .