تحليل قصة إبليس في الأديان الأخرى :
قلنا إن المفاهيم الميثولوجية تحتل مكانة هامة في جميع الأديان السماوية منها وغير السماوية إلا إن الميثولوجيا تعرضت للانكسار وتراجعت لصالح الأديان وأصبح الدين يعتمد على الإيمان الذي يدخل كجزء لايتجزء من بنية أي دين , و الإيمان هو شعور لايستند إلى أي شكل من أشكال البرهان المنطقي والعلمي الذي يطبع الناس في كل ما يتعلق بأمور دينهم لهذا تشكل المعجزة جزء من الإيمان بوصفها شيء خارق للطبيعة، فالتفكير الديني مستوحي من التفكير الميثولوجي والذي يستمد أصوله من الملاحم الشرقية القديمة كالبابلية والفرعونية والهندية وغيرها , يقول ابن حجر العسقلاني في كتابه لسان الميزان " ثلاثة كتب ليس لها أصول وهي المغازي والتفسير والملاحم " وذلك باعتبارها من الموروثات الدينية تنشأ وتتطور مع نشوء المجتمع , فهناك تأثير متبادل ما بين الأديان جميعا من حيث المعتقد وتفسير قضايا الخلق والكون لان منبعها واحد والكل متفق على أن التاريخ الإنساني ابتدأ على هذه الأرض بعد أن خلق الله الكون وطرد ادم وحواء من الجنة الى الأرض .
وتعتبر الكتب الدينية اليهودية وأهمها التوراة في سفر التكوين أهم المراجع الدينية في تفسير قضايا الخلق والتكوين و التي منها انتقلت إلى التفاسير الدينية الأخرى من حيث تقسيم خلق الكون على ستة أيام وقصة غواية حواء لآدم ودور الحية في الغواية ونوع الشجرة التي أكل منها ادم وحواء وغيرها ، وان تحديد كل هذه التفاصيل على نحو ما أورده الطبري (6) سواء في تفسيره أو في تاريخه ليس إلا ترديد لنصوص كاملة لما وردت في التوراة وتفاسيرها (المدراشيم ) والأساطير اليهودية (الاجادوت) .
أما شخصية إبليس فما هي إلا شخصية ميثولوجية أدى اختلاف الآراء فيها إلى احتدام المناظرات الجدلية بشأنها , وان تفحصا سريعا لتاريخ الأديان يبين لنا إن عبادة الإبليس أو (اهريمن ) كانت منتشرة في إيران القديمة عند مجوس الزرادشتية والمزدكية والمثرائية كديانة مستقلة بذاتها تقوم على أساس عبادة العفاريت (اهوراس) وممارسة السحر والاباحات وتقديس اله الشر الديو اوالديفا (7) , وعلى صعيد التفكير الديني الزرادشتي فأن اهورا مزدا واهريمن كان يمثلان الهي النور والظلمة الخير والشر حيث كانت لاهريمن أو اله الشر مكانة متميزة في الديانات التي سبقت الزرادشتية والمثرائية , حيث يقول الزرادشتيون " أن الله يستطيع أن يخلق كائنات لايمكن أن ينزل بها الشقاء فكيف نتصور إذن انه لم يخلقها إذا لم يوجد هناك تدخل من خصم مستقل وإذا كان الله يريد ذلك ولم يستطعه فهذا لأنه ليس كلي القدرة وإذا كان يستطيعه ولم يفعله فذلك لأنه ليس الرحمن الرحيم " (8) وهكذا كان النقاش يتصل بمسالة الشر في الشكل الذي يصفه به كل توحيدي , ومن معتقداتهم أيضا " إذا كان الله يريد الخير فلابد عندئذ من كائن آخر يريد الشر " لأنهم يؤمنون بمبدأ الثنائية في العبادة وأمور الحياة, فالفقر والألم والموت هي التي تعطي للغنى والصحة والحياة معناها , بينما يرى غيرهم إن من غير المعقول أن نفكر إن الله قد خلق الشر لكي يستطيع الناس بفضل التضاد تقدير الخير وان الله لايمكن أن يخلق كائنا معارضا له في نفسه وانه سوف ينقلب ضده كما لا يمكن أن نعزو أصل الشر الى الإنسان لان الإنسان من خلق الهي (9) , فالخير والشر هما من الأمور النسبية عند البشر لأنه إن كان الشر اسما جامعا للآثام والرذائل فإنها قد تكون لشرائع أخرى غير ذلك ومباحة وكذلك الأمر مع الخير فما هو مباح وأخلاقي عند مجتمعات قد يكون من الجرائم الدينية والأخلاقية عند غيرهم .
فليس ثمة اتفاق على طبيعة الإبليس فهو اله الشر عند الديانات الإيرانية القديمة (ديفاس أو الديو) الذي يقابله (أندرا ومارا ) عند الهند الفيدية وهي عندهم شخصية مقدسة تسيطر على شؤون السماء والمارا في اللغة الكردية هي الحية والحية يرد ذكرها في العهد القديم بأنها أغوت آدم وحواء حتى غضب الله عليهما أما عند اليزيدية فالحية تمثل رمزا للخير وهي ترتبط بطاووس ملك , السوداء منها خاصة , كما إن الحية في الموروث الديني اليزيدي هي التي أنقذت سفينة نوح من الغرق , و الإبليس هو تيئوس أو دياوس عند اليونانيين القدماء وهو الإله تموز عند البابليين والسومريين وهو أمير الظلام أو الملاك الساقط في الأديان السماوية وهو تارة من الجن وتارة أخرى من الملائكة.
وكما اختلفت في الأديان القديمة فإن شخصية الإبليس جاءت مختلفة أيضا في الأديان السماوية فهو في التوراة والعهد القديم غيره الذي ورد في الأناجيل وهو مختلف عن الذي ورد في القرآن , ففي العهد الجديد يرد اسم الشيطان بدل الحية التي أغوت آدم وحواء في العهد القديم , وفي القرآن فانه يرد بأسم الإبليس والشيطان (10) , حيث ظهر الإبليس في العهد القديم على هيئة الحية الذي ورد ذكره في الإصحاح الثاني من سفر التكوين والتي غضب عليها الله لأنها أغوت آدم بالأكل من شجرة الخير والمعرفة أما في العهد الجديد الإنجيل فان اسم الشيطان يرد بدلا من الحية الذي وسوس لآدم وحواء وفي القرآن فيرد اسم الإبليس والشيطان (11) , وقد جاء في التلمود إن الشيطان وشهوات النفوس السيئة وملك الموت ليست إلا مترادفات لمعنى واحد أما كلمة شيطان فهي كلمة عبرية الأصل ومعناها العدو ويدل في المسيحية واليهودية والإسلام على مبعث الشر (12) , وهو مثل أي كائن لايستطيع أن يفعل شيئا إلا بإذن الله لان قدرته لاتساوي شيئا أمام القدرة الإلهية.
إن هذا الاختلاف حول شخصيته واختلاف العقائد الدينية في تحديد طبيعته يعد من الوجهة العلمية في موضع شك من ناحية وجوده وفي مصداقية تلك المعتقدات حول شخصية الإبليس (13), وان لم يكن بالمستطاع مناقشة مسالة الرموز الدينية لكونها من المسائل المقدسة والحساسة جدا ومن الصعب إخضاعها للمناقشة العلمية (14) بل هي تخضع للتسليم والإيمان لكن لا إيمان العجائز أو التسليم البسيط الساذج الذي يطبع إيمان معظم الناس إنما الإيمان الواعي المدرك القابل للجدل والاجتهاد لان الثوابت الدينية ليست مطلقة بل هي نسبية وقابلة للتطور والدفاع عن الثوابت الدينية يكون عن طريق إيراد الحجج على صحتها وحمايتها من التزييف والمبالغة والمحافظة على حقائقها في بساطتها ووضوحها .