قبل زرادشت، أي القرن السادس قبل الميلاد وما قبل، كان للإيرانيين آلهة كثيرة؛ وكان ميثرا أحد الآلهة ذات الأهميّة الفائقة. ومع أنّه مذكور كإله فارسي هام في مدوّنات الكتّاب الإغريق، خاصة تلك التي تعود إلى الزمن الهلنستي، إلاّ أنّ تاريخه غامض. وكما يذكر أحد المراجع، ففي الزرادشتيّة يصادفنا ميثرا كمجرّد يازاتا، وهو أحد أنواع الملائكة، قوّة من نور تحارب إلى جانب أهورا مازدا. وما نزال بحاجة إلى من يبرهن على أن مكانته كانت أعلى من ذلك.

لقد كان إله العقود والالتزام التبادلي. وفي رقم مسماري من القرن الخامس عشر قبل الميلاد، يذكر ميثرا كإله للقَسَم. اسم ميثرا الإله مترادف مع كلمة ميترا، التي تعني "عقداً"، كما يقترح أنطوان ميليه. وفي بعض المصادر الهندوسيّة الفيديّة القديمة، يظهر الإله ميترا كصديق وإله للعقود. ويصح ترجمة كلمة ميترا بمعنى العقود والصداقة على حدّ سواء. فالعقود والالتزام التبادلي تفضي إلى نوع من الصداقة. باختصار، يمكن أن يشير ميثرا إلى نوع من العلاقات الإنسانيّة أو إلى شيء يقيم بين بني البشر علاقات جيّدة. دُعي ميثرا المداوي أيضاً. وكما أشرنا من قبل، فهو إله الشمس الذي يغمر بنوره المضيء كلّ شيء. ويقال إنه ربما كان إله الملوك، كإله للإلتزام التبادلي بين الملك ومحاربيه، لذلك فهو أيضاً إله الحرب. إضافة إلى كلّ ما سبق، فميثرا كان إله العدالة، الذي يكفله الملك. وحيث كان الناس يهتمّون بالعدالة والعقود، كان ميثرا يفرض تبجيله.

كان شائعاً بين الشرقيين في حقب مختلفة الأسماء المشتقة من ميثرا، كميثريداتس (اسم أحد الملوك في آسيا الصغرى).

منذ داريوس (522-486 ق. م.)، كان ملوك الفرس من السلالة الأخمينيّة زرادشتيين. لكن داريوس وخلفاءه لم يكونوا يميلون إلى خلق الصعوبات السياسيّة لأنفسهم عن طريق اقتلاع الاعتقادات القديمة التي ظلت عزيزة على قلوب كثير من النبلاء. وتدريجيّاً راحت الديانة الزرادشتيّة تحتوي عناصر من الديانات القديمة، متعدّدة الآلهة. فألفت التراتيل على شرف الآلهة القديمة. وكان هنالك أيضاً تراتيل مكرّسة لميثرا، يوصف فيها الإله كإله للنور السماوي، عليم بكلّ شيء، يحمي العهود، ويصون الحقيقة في عالمنا هذا والعالم الآخر؛ لكنه قبل كلّ شيء، العدو الأكبر لقوى الشرّ والظلام ـ وهكذا فهو إله المعارك والانتصارات.

في أواخر الحقبة الأخمينيّة، سيطرت السمات الزرادشتيّة على تلك الوثنيّة، في هذه الديانة التي كانت تحتوي عناصر متمازجة. فالتضحية بالثور، التي كان الزرادشتيون يأنفون منها، لم تكن تذكر قط. وحين أخضع الاسكندر الكبير الامبراطوريّة الفارسيّة لنفوذه عام 330 ق. م.؛ بدا أن البنيان القديم للمجتمع سوف ينكسر بالكامل، فلم تعد عبادة ميثرا مباحة في فارس.

كانت عبادة ميثرا قد انتشرت في الأماكن التي غزاها الفرس؛ ووصلت، بشكل خاص، إلى وادي الفرات حيث استقرّت لفترة طويلة للغاية؛ حتى أن كثيراً من الكتّاب اليونان والرومان تحدّثوا عن هذا الإله كإله آشوري. فرع آخر من تلك الديانة ترسّخت أقدامه في كيليكيا؛ وكانت أهميته خاصّة نظراً للتطوّرات اللاحقة التي عرفتها الديانة. ولسبب أو لآخر، لم يخترق ميثرا قط الأجزاء الغربيّة من آسيا حتى أوقات متأخرة، أي بداية ظهور المسيحيّة. لكن فهمه تعدّل بالطبع عبر الاحتكاك مع الديانات الغريبة، خاصة، كما أشرنا مراراً، حين بدا أنه تماثل مع الشمس، أو تقارب منها على الأقل. ونتيجة لزيادة عدد المؤمنين به في الغرب، أخذت عبادته شكلاً سرّانيّاً، هذا إذا لم تكن السرانيّة جزءاً فعليّاً منها؛ إضافة إلى طقوس الإدخال في الدين، احتفالات التطهير والتكفير وما شابه، من تلك الطقوس المناسبة لعبادة كهذه.

في القرن الأوّل قبل الميلاد، وصلت المثرويّة إلى العالم الروماني، عن طريق القراصنة الكيليكيين، الذين أسرهم بومبي. أمّا زمن أغسطس فالمعرفة بميثرا كانت قليلة في الإقليم الروماني، مع ذلك فقد أحرز وجوداً تدريجيّاً راسخاً في إيطاليا، نتيجة توسّع روما باتجاه آسيا.

ظلّ أرستقراطيّون محليّون يبجّلون ميثرا في الجزء الغربي من الامبراطوريّة الفارسيّة. كما كان يعبده الملوك والنبلاء في المناطق الحدوديّة الواقعة بين العالم الروماني-الاغريقي من جهة، والعالم الفارسي من جهة أخرى. وحين أقرّ تيريداتوس الأرمني بالسيادة المطلقة للإمبراطور الروماني نيرون، أدّى طقساً ميثرويّاً، مشيراً بذلك إلى أن إله العقود والصداقة وطّد علاقات جيدة بين الأرمن والرومان العظماء. كما كان ملوك كوماجينه، الواقعة جنوب شرق تركيّا الحاليّة، يجلّون ميثرا. ويعتقد أنّ الملك ميثريداتيس البونطوسي كان يعبد ذاك الإله، وأن حلفاءه من القراصنة كانوا يقومون بطقوس ميثرويّة، عام 67 ق. م. لكن عبادة ميثرا لم تلق رواجاً شعبيّاً في العالم الإغريقي قط، لأن الإغريق لم يستطيعوا أن ينسوا قط أن ميثرا هو إله ألدّ أعدائهم الفرس.

لا توجد أيّة إشارة إلى الإله الفارسي في العالم الروماني حتى بداية القرن الميلادي الثاني؛ مع ذلك، فمنذ عام 136 وما بعد، كان ثمّة عدد من النقوش المكرّسة لميثرا. ومع نهاية القرن الثاني بدأت الديانة تنتشر بسرعة في صفوف الجيش وبين طبقات التجّار والعبيد؛ وكانت كلّ تلك الطبقات مكوّنة إلى حدّ كبير من الآسيويين. وازدهرت عبادة ميثرا بشكل خاص في محطّات الجيش، وعلى طرق التجارة؛ كما انتشرت بشكل معتبر في الموانيء. وكان الدليل الأهم على ازدهار الميثرويّة هو ذاك الذي قدّمه ساكنو الحدود من الألمان. ويبدو أنّ روما ذاتها أيضاً كانت مكاناً مفضّلاً للديانة. ومنذ القرن الثاني للميلاد، راح الأباطرة يشجعون على انتشار الميثرويّة، لأنها تدعم الحق الإلهي للملوك. فقد كان الفرس يعتقدون أنّ الملك الشرعي إنما يحكم بنعمة أهورا مازدا، الذي كان يظهر معروفه بإرسال هفارينو ـ Hvareno ـ أي هالة نار سماويّة؛ وفي رأيهم أن الشمس هي التي تمنح الهفارينو. من هنا يصبح ميثرا، المتماثل مع سول أنفكتس Sol Invictus، ذاك الذي يعطي السلطة والنصر للبيت الملكي.

استخدمت فرضيّات كثيرة لتفسير انتشار الميثرويّة في العالم الروماني كانت أكثرها قرباً إلى المنطق تلك القائلة إن الميثرويّة الرومانيّة كانت في الواقع عملية خلق جديد، قام به عبقري دين عاش في أواخر القرن الأوّل للميلاد، حيث أعطى الطقوس الفارسيّة القديمة تفسيراً أفلاطونيّاً جديداً مكّن الميثرويّة من الانتشار في العالم الروماني.

ونعيد من جديد، إن الميثرويّة الرومانيّة، كالميثرويّة الإيرانيّة، كانت ديانة الولاء للملك. لذلك يبدو أنها شُجّعت من قبل بعض الملوك، خاصّة كوموس ( 180- 192 )، سبتمس سيفروس ( 193- 211 )، وكركلاّ (211 – 217). أمّا الموالون الذين عرفناهم من النقوش الميثرويّة، الذين كانوا من الجماعات المقرّبة من الملوك عموماً، فقد كانوا أشخاصاً يؤمنون بإله يمكن أن يوصلهم إلى ترقية سريعة.

راحت أسرار الميثرويّة، التي انتشرت بين نهاية القرن الأوّل والقرن الرابع، تموت تدريجيّاً. وكان أقصى امتداد لها عند منتصف القرن الثالث. في إيطاليا، نجد الدليل المحسوس على انتشار الميثرويّة في الأماكن التالية: روما، أوستيا، Latium Etraia، كامبانيا، Cisalpine Gaul؛ مع ذلك، يمكن لمراكز أخرى أن تبقى في الذاكرة: أكيليا؛موانيء صقليّة الرئيسة: باليرمو، سراقوسة، وكتانيا؛ كذلك فقد انتشرت الديانة الميثرويّة أيضاً على تخوم الراين؛ في النمسا وألمانيا؛ في الأقاليم الدانوبيّة: بانيا، ميسا، داشا؛ في فرنسا: دالماتا، وادي الرون وأكيتانيا؛ تراشا؛ بلجيكا؛ في انجلترا: في لندن وفي الشمال في هارديان؛ في شبه جزيرة إيبريا ومقدونية كان انتشار الأسرار أقل؛ لكن أثرها لم يكن موجوداً في اليونان. تظهر لنا بعض الأدلّة عن وجود للديانة على طول سواحل المتوسط الآسيويّة والإفريقيّة: لكن حضورها كان محصوراً في الموانيء البحريّة الكبيرة، خاصة في الأقاليم الآسيويّة.

عام 275 م. بدأ سقوط الميثرويّة، مع ضياع اقليم داشا Daciaمن الامبراطوريّة الرومانيّة. وكان للاضطهاد المسيحي للميثرويين دوره في إسقاط تلك الديانة. وظل أباطرة الرومان يفضّلون الميثرويّة، التي كان الجيش يعتنقها، حتى قضى قسطنطين على كلّ الآمال. لكن حكم جوليانوس واغتصاب أيوجينوس للعرش أعاد بعض الحياة إلى الآمال الميثرويّة، وجاء انتصار ثيودوسيوس، عام 394، ليحبط تلك الآمال نهائيّاً. وظلّت الميثرويّة على قيد الحياة في بعض مناطق الألب حتى القرن الخامس الميلادي، وكان تمسّكها بالحياة أكثر في موطنها الآسيوي.