من المعروف أن منطقة شرق المتوسّط كانت وما زالت إحدى أهمّ مراكز الفكر السرّاني [ الباطني ] في العالم؛ وماتزال هذه السرّانيّة حيّة للغاية في الطوائف المسمّاة "باطنيّة"، خاصّة في مناطق إيران وسوريّا وتركيّا حتى ألبانيا. فهذا الخط الممتد من غرب إيران، أي العلي-إلهيّة وربما الشيعة الإثناعشريّة كلّها، بمن فيهم فيليّو العراق؛ مروراً باليزيديين والكاكائيين والابراهيميين والشبك؛ ومن ثم القزل باش الأتراك والنصيريين [العلويين] في سوريّا وأسيا الصغرى؛ وإلى حدّ ما الدروز والإسماعيليين؛ حتى البكطاش في ألبانيا. وفي هذه المقالات سنحاول إلقاء الضوء على بعض من تلك الطوائف السرّانيّة؛ وسنبدأ بميثرا الذي انتقل كثير من تفاصيل عبادته إلى إحدى الديانات الهامة عالميّاً، أي المسيحيّة. دون أن ننسى أن عبادة ميثرا ازدهرت في قرون ما قبل الإسلام في مناطق النصيريين الحاليّة.
ميثرا: الإله المهزوم!
لا يمكن فهم الوضع الميثولوجي-الديني لمنطقة الشرق الأوسط إلاّ عبر تلك اللوحة الفسيفسائية التي يساهم كلّ معتقد في إضافة حجر صغير إليها بحيث يبدو أن تجاهل تفصيل صغير من تلك المعتقدات يمكن أن يشوّه الصورة البانوراميّة الميتافيزيكيّة!
يحتفل كلّ المسيحيين تقريباً بعيد ميلاد المسيح في الخامس والعشرين من كانون الأوّل ـ ديسمبر من كلّ عام! ومع أنّ المؤمنين بالمسيح يختلفون فيما بينهم حول ماهيته، فالمسيحيّة الأرثوذكسيّة تقول إنه "إله منبثق من إله"، رغم تناقض المسيحيين الأرثوذكس حول بعض التفاصيل، في حين تقول بعض المسيحيّة اللاتقليديّة، كشهود يهوه، أو جماعة لاهوت الصيرورة، والمسلمون، إنه نبي مرسل مع بعض الاختلافات في التفاصيل، فإن كلّ أولئك المؤمنين أن يسوع هو المسيح يرفضون قطعيّاً اعتبار يسوع إله الشمس: فمن أين جاء الاحتفال بعيد ميلاده يوم الخامس والعشرين من كانون الأوّل ـ ديسمبر، البداية تقريباً لعودة النهار عن القصر، وولادة الشمس، إذن؟ ومن هو إله الشمس هذا الذي أخذ يسوع بعض سماته والذي ما تزال بعض سمات عبادته، كعيد الميلاد مثلاً، موجودة في المسيحيّة حتى الآن؟
ميثرا: مدخل تعريفي!
لا شكّ أن أهورا مازدا، إله الخير في الزرادشتية، أهم إله في البانثيون الإيراني القديم. لكن هذا لا يعني أنه كان الإله الأوحد بالنسبة لهم؛ فبمحاذاة أناهيتا، كان ميثرا أحد الآلهة الرئيسة في ذلك البانثيون؛ وهو الذي عبر حدود العالم الفارسي ليصبح من ثمّ أهم إله في الديانة السرانيّة-الباطنيّة التي كانت شائعة آنذاك في الامبراطوريّة الرومانيّة! بل غالباً ما ذكر ميثرا في الأفستا والأدب الزرادشتي الحديث؛ كما أنّ الأفستا تكرّس له ترتيلة بأكملها! إضافة إلى ما ذكرناه آنفاً، يمكننا الإشارة أيضاً إلى الميثراكانا، وهو احتفال سنوي كبير يقام في الشهر السابع من التقويم الزرادشتي، مكرّس لميثرا أيضاً، كما يدلّ اسمه، واستمرّت أشكال معدّلة منه حتى دخول المسلمين المنطقة.
ثمّة مراجع أخرى عديدة تقودنا كلها إلى إله الشمس هذا: فالمخطوطات الأخمينيّة، بدءاً بأرتحششتا الثاني (404-309)، تذكره جنباً إلى جنب مع أهورا مازدا وأناهيتا؛ وعلى نقود الامبراطوريّة كان اسمه ميورو، وكان يصوّر كإله للشمس؛ وفي المانوية البارثيّة والسوغديانيّة يظهر تحت اسم ترتوس ليغاتوس؛ أمّا في المانوية الفارسيّة فيظهر باعتباره سبرتوس فرنس، وهكذا.
في الأساس، ميثرا هو إله النور: فهو الذي يجرّ الشمس بخيوله السريعة؛ وهو أوّل من يصل إلى قمّة جبل هارا، مركز الأرض، ومن هناك يراقب منازل كلّ الآريين؛ وهو الذي يشعّ بأنواره الذاتيّة فيجعل أشكالاً عديدة من العالم مرئيّة صباحاً. في العالم الإيراني، بجانب كونه إله النور الذي يحمل سمات شمسيّة (تُفسّر تماثله مع الإله شمش في منطقة ما بين النهرين) قويّة، يمتلك ميثرا أهميّة واضحة كإله للحرب! وإذا ما أردنا مقارنته بآلهة البانثيون الهندوسي، ميثرا أقرب إلى أندرا منه إلى ميترا في الفيدا، أسفار الهندوس المقدّسة. لميثرا أيضاً سمات الآلهة المسؤولة عن هطول المطر وهو ما يؤدي إلى الازدهار بحماية الماشية من الموت عبر توفير المراعي الكثيرة لها!
تشكّل عبادة ميثرا وأناهيتا التجدّد الأساسي في الزرادشتيّة بعد زرادشت، وتمثّل أهم توافق للزرادشتيّة مع التعدّديّة الإلهيّة القديمة. ومن المفيد هنا أن نشير إلى دور ميثرا كمحام عن "آشا"، النظام والحقيقة ـ المبدأ الأساسي للديانة الإيرانيّة-الهندوسيّة القديمة، والزرادشتيّة أيضاً ـ الذي ينقذه من وصمة التعدّديّة الإلهيّة التي أدانها زرادشت أصلاً.
يُعتقد عموماً أنّ ميثرا-الإله أقدم ربما من تاريخ انفصال فرع غزاة الهند الآريين عن جذعهم الإيراني، وذلك لأنه مذكور في الوثائق السنسكريتيّة والفارسيّة القديمة!
منذ عصور ما قبل الزرادشتيّة، تسلّلت عبادة ميثرا الإيراني، إله الشمس والعدالة والعقود والحرب، إلى روما، وهناك عرف باسم ميثراس، في القرنين الثاني والثالث للميلاد؛ وكان لهذا الإله المؤمنون به كجزء من الولاء للإمبراطور. لكن فرض المسيحيّة كدين رسمي للإمبراطوريّة الرومانيّة من قبل الإمبراطور قسطنطين في بداية القرن الرابع للميلاد، هزم المثرويّة بسرعة لتحلّ المسيحيّة محلها.
الديانة الميثرويّة:
بعد مرورنا السريع على بعض جوانب ميثرا الإله، نصل الآن إلى الميثرويّة الديانة، التي أُشيدت أساساً على هذا الإله الإيراني، لكنها تطوّرت من ثم، تاريخيّاً وجغرافيّاً، وفق الأمكنة التي وصلت إليها أو تاريخ وصولها.
إنها ديانة سرّانيّة ذات بناء قريب من ذلك الذي تميّزت به الديانات السرّانيّة الأخرى، وأساسها فكرة تتحدّث عن إله يجتاز سلسلة حوادث معقّدة دون هزيمة. ومع أن الميثرويّة ديانة إيرانيّة الجذور، وهو ما تشير إليه حقيقة أن ميثرا عُرف على الدوام كإله فارسي، فالديانة أخذت شكلها العام خارج إيران، حين انتشرت داخل الإمبراطوريّة الرومانيّة. فالميثرويّة استهوت العالم الروماني بسبب فلسفتها السرّانيّة، التي تركّز على حياة النفس وصعودها، كما سنفصّل لاحقاً، عبر العوالم الكونيّة السبعة. ويتجسّد هذا الصعود في سبع درجات استهلاليّة، متأوّجاً من ثم في المستوى التصاعدي للنجوم الثابتة أو aeternitas.