بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين



الغافلون عن الآخرة الأكثر صدمةً يوم القيامة: "ويلٌ لمن غلبت عليه الغفلة فنسي الرحلة"



يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول بالغدوّ والآصال ولا تكن من الغافلين}، ويقول تعالى: {إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها وهم عن آياتنا غافلون * أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون}، ويقول تعالى: {وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون}، ويقول سبحانه: {وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد * ونُفخ في الصور ذلك يوم الوعيد * وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد * لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد}.

الغفلة عن قضايا المصير:

في هذه الآيات - وفي غيرها - يؤكد الله تعالى على مشكلة إنسانية يعيشها الناس في حياتهم، تتصل بمصيرهم في الدنيا والآخرة، وهي مشكلة الغفلة عن كل القضايا الحيوية التي تتصل بمصير الإنسان في الدنيا أو بمصيره في الآخرة، بحيث يعيش حالة اللامبالاة، فلا يتفكر بما يُقبل عليه من النتائج السلبية أو الإيجابية، ولا يخطط في حياته للطريقة التي يمكن أن يصل من خلالها إلى النجاة، بل يستسلم لشهواته ولذاته وعصبياته، وللأوضاع المحيطة به، فهو يستغرق فيما حوله، ولكنه لا يحدّق فيما أمامه، وعندما تأتي الساعة الحاسمة، سواء في النتائج التي يمكن أن يقبل عليها في الدنيا أو في الآخرة، يُفاجأ كما لو كان لا ينتظر ذلك، وهذا ما نلاحظه فيما حدّثنا الله تعالى به عن بعض الناس عندما يواجه يوم القيامة وإذا به يقول: {ربِّ ارجعون * لعلي أعمل صالحاً فيما تركت - لقد كنت غافلاً عن هذا الواقع الجديد الذي أصادفه، ولم أكن أفكر بأن المسألة بهذه الخطورة وبهذا الحجم، ولقد مرّت عليّ سنوات الشباب والكهولة وكنت مستغرقاً بكل الشهوات واللذات، ويكون الجواب: - كلا إنها كلمة هو قائلها}، إنه مجرد كلام يقوله ولا يُسمع، لأن الله تعالى أعطى الإنسان الفرصة الطويلة وهي كل عمره..

الغافلون مأواهم النار:

ويقول الله تعالى لنا وهو يحدثنا عن بعض الناس: {أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرّطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين * أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين * أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرّة فأكون من المحسنين * بلى قد جاءتك آياتي فكذّبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين}. وهذا ما تعبّر عنه الآيات التي تتوجه إلى كل الذين كفروا وانحرفوا: {إن الذين لا يرجون لقاءنا - لا يفكرون بالآخرة ولا يحسبون حسابها - ورضوا بالحياة الدنيا - كان كل رضاهم وهدفهم بالحياة الدنيا - واطمأنوا بها - شعروا بالاطمئنان والاستقرار في الدنيا كما لو كانت خالدة لهم - والذين هم عن آياتنا غافلون - لا ينتبهون إلى الآيات التي تنذرهم بما يقبلون عليه في الآخرة عندما ينحرفون عن خط الله، والتي تبشّرهم بما يقبلون عليه في الآخرة عندما يستقيمون في خط الله - أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون } فالله تعالى لا يظلم أحداً {وأنذرهم يوم الحسرة - وهو يوم القيامة الذي يمثل يوم الحسرة لمن لم يستفد من فرص العمر الذي مرّ به - إذ قضي الأمر - وأُغلق باب العمل - وهم في غفلة وهم لا يؤمنون}.

ويحدّثنا الله تعالى عن أن الإنسان كلما تقدّم عمره كلما اقترب حسابه، وهذا ما ورد في كلمة للإمام عليّ (ع): "نفس المرء خطاه إلى أجله"، فالإنسان إنما يمشي به إلى أجله أنفاسه: {اقترب للناس حسابهم - يابن العشرين قد تلتقي الله في العشرين، ويابن الثلاثين ربما تقدم على الله في الثلاثين، ويابن الأربعين والخمسين والستين لقد اقتربت ساعتك فهل أنت مستعد - وهم في غفلة معرضون * ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث - يستمعون الآيات، ولا سيما جيلنا الذي يستمع إلى الآيات أكثر من الجيل السابق نتيجة التطورات في الأجهزة الصوتية والسمعية - إلا استمعوه وهم يلعبون * لاهية قلوبهم}، لم يفتحوها لذكر الله وللتفكّر في المصير.

الغافلون يوم القيامة:

ويقول تعالى: {واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا - أو الذين قصّروا وانحرفوا وكفروا وفجروا - يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين}، لأنهم ظلموا أنفسهم.. ويقول تعالى: {وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد - عندما يأتي الموت فإننا نحاول أن نحيّد أنفسنا أمام كل أسباب الموت، ولكن جاءت اللحظة - ونُفخ في الصور ذلك يوم الوعيد * وجاءت كل نفس معها سائق - يسوقها إلى الموقف بين يدي الله - وشهيد - يشهد عليها بما قدّمت من عمل - لقد كنت في غفلة من هذا - كانت عيون عقلك وقلبك وحياتك مغمضة- فكشفنا عنك غطاءك - الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا - فبصرك اليوم حديد}.

الاتّعاظ بتغيّر الأحوال:

وورد في الأحاديث عن عليّ (ع): "ويل لمن غلبت عليه الغفلة فنسي الرحلة ولم يستعدّ"، ونحن في هذه الدنيا في سفر، والسفر يحتاج إلى إعداد. ويقول عليّ (ع): "احذر منازل الغفلة والجفاء وقلة الأعوان على طاعة الله"، أن تكون في مجتمع لا تجد فيه من يعينك على طاعة الله. ويقول (ع): "ضادّوا الغفلة باليقظة"، ويقول (ع): "يا أيها الإنسان ما جرّأك على ذنبك وما غرّك بربك، وما أُنسك بهلكة نفسك - أنت تستأنس في الدنيا فتسكر وترقص وتلهو وتأكل أموال الناس بالباطل وتعاون المجرمين الظالمين، وتنسى واجباتك التي فرضها الله عليك، وأنت مسرور، أتدري ما معنى سرورك؟ أنت تسرّ بهلاك نفسك، لأن هذه الأعمال تجرك إلى هلاكها - أما من دائك بلول - لأنك مريض، والمرض هو مرض الروح لا مرض الجسد، والمريض يجب أن يداوي نفسه - أم ليس من نومك يقظة"، فأنت نائم القلب وإن كنت مفتوح العينين، فاستيقظ من غفلتك.

ويقول عليّ (ع): "أولستم ترون أهل الدنيا يصبحون ويمسون على أحوال شتّى، فميت يُبكى وآخر يعزّى، وصريع مبتلى، وعائد يعود، وآخر بنفسه يجود، وطالب للدنيا والموت يطلبه، وغافل وليس بمغفول عنه، وعلى أثر الماضي ما يمضي الباقي"، فكما أن الماضين ذهبوا فالباقون في أثرهم. ويقول (ع): "أغفل الناس من لم يتّعظ بتغيّر الدنيا من حال إلى حال"، عندما تتغيّر الدنيا من حال إلى حال فاعرف أن هذا نذير فنائك..

اليقظة دائماً:


المسألة في كل هذه الآيات والأحاديث تهزّ وجداننا وأعماقنا، فقد خلق الله للإنسان عقلاً، وعليه أن لا يسمح لعقله بأن ينام، لأن العقل إذا نام في غفلته تركك حائراً أمام ما تقبل عليه، لأنك بالعقل تخطط وتفكر وتميز بين ما ينجيك وما يهلكك، وقد خلق الله تعالى لنا قلوباً تخفق وتنبض، فعلينا أن لا نجعل قلوبنا تنام، بل لا بد أن تكون منفتحة على كل ما يريد الله لها من الوعي والمحبة والرحمة، وقد خلق الله لنا جسداً يملك الحركة وأرادنا الله أن نحركه في الخط المستقيم، وعلينا أن نكون دائماً في يقظة لنميّز بين الخط المستقيم والخط المنحرف، وعلينا أن نعرف أن كلماتنا من أعمالنا، وأن علاقاتنا ومواقفنا ومواقعنا من أعمالنا، إن القافلة التي سار فيها آباؤنا أصبحنا جزءاً منها، وهي تتقدم، فإلى أين تبلغ بنا القافلة، إلى جنة أو إلى نار؟ لذلك، لنجلس مع أنفسنا ونقرأ كتاب أعمالنا قبل أن يُعرض علينا الكتاب..

أيها الأحبة، للجنة أعمالها وللنار أعمالها، "تخففوا تلحقوا"، تخففوا من حقوق الله عليكم، وتخففوا من حقوق الناس عليكم، لأن ليوم القيامة حساباً طويلاً دقيقاً عميقاً عن كل حق لله وللناس ولأنفسكم، لأن ذلك اليوم يوم صعب، فتعالوا نفتح عقولنا لله ليُطهّر عقولنا، ولنفتح قلوبنا لله لنخرجها من الغفلة، ونفتح حياتنا لله لنوجهها في طاعة الله، فاليوم "عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل".