"وكان الأزهر ولا يزال كعبةً يحج إليها الناس من أقطار الأرض، ينهلون من ورده، ويقبسون من نوره "وأعظم ما يدلنا على ما لهذا الجامع من مقامٍ عظيمٍ في العالم الإسلاميِّ, هو عداد أسماء الذين يؤمونه من أقطارٍ خارج مصر, تمتد من أواسط أفريقية, إلى روسية, ومن أقاصيِّ الهند إلى مراكش" [1]. إذن: متى بني الجامع الأزهر ؟ وما هي معالمه جامعًا وجامعةً ؟
الفاطميون في مصر
تم للفاطميين دخول مصر بقيادة جوهر الصقلي, ومن ثَمَّ أرادوا أن يؤسسوا مدينة جديدةً تكون لهم معقلًا وحصنًا يأوون إليه, ويتخذون منه مستقرًّا ومقامًا. أنشأ جوهر تلك المدينة, وسمَّاها المنصورية وذلك في شعبان 358هـ / يوليو 969م، ولما انتقل المعز لدين الله العبيدي الفاطمي، من القيروان ووفد إلى مصر للإقامة بها رمضان 362هـ / يونيو 972م, غيَّر اسم المدينة, وسمَّاها القاهرة المعزية نسبةً إليه.
إنشاء الأزهر
ولما كان أول ما ينشأ في مدينة إسلامية إنما هو الجامع الذي يجتمع فيه المسلمون لصلاتهم، ومن فوق منبره يدعون إلى شئونهم، ويودعونه خزائن كتبهم, ويقيمون فيه شعائر دينهم, أنشأ جوهر الصقلي الأزهر في طليعة ما أنشأ؛ كي يكون مجلسًا لهذا المظهر الدينيِّ، وليقوم سياجًا للشيعة التي يعملون على تأييدها. وقد أبى الفاطميون أن يفاجئوا في مطالع عهدهم أهل السنة بخطبتهم التي يقولون فيها: "وصل على الأئمة آباء أمير المؤمنين المعز لدين الله"، وآثروا أن يقولوا ذلك في مسجدٍ خاصٍّ بهم، فكانت تلك هي البواعث على إنشاء الأزهر.
تاريخ إنشاء الأزهر
كان البدء في إنشاء الجامع الأزهر في يوم السبت لستٍ بَقَيْنَ من جمادى الأولى سنة 359هـ / أبريل 970م ، وكمُلَ بناؤه لتسعٍ خلون من شهر رمضان, سنة 361هـ / يونيو 972م، وكتب فيه بدائرة القبة التي في الرواق الأول, وهي على يمنة المحراب, ما نصُّه بعد البسملة: "مما أمر ببنائه عبد الله ووليه أبو تميم, معد الإمام المعزل لدين الله, أمير المؤمنين -صلوات الله عليه وعلى آبائه وأبنائه الأكرمين - على يد عبده الكاتب الصقليّ, وذلك في سنة إحدى وستين وثلاثمائة" [2].
الغرض من إنشاء الأزهر
كانت الحكمة ناصعةً في إنشاء الجامع الأزهر, بل هي أشد نصوعًا ووضوحًا فيه منها في غيره من المساجد الجوامع؛ إذ أن دولة الفاطميين دولة الشيعة. والجامع الأزهر هو أول مسجد أقامته الشيعة بمصر؛ فقيامه إذن رمز لسيادة هذه الدعوة الجديدة التي هي دعوة الشيعة, كما كانت القاهرة المعزية رمزًا لنصرة الدولة الجديدة وسيادتها.
كان ذلك هو الغرض من إنشائه أول الأمر، ولكن تَقَلُّبَ الدول, وكر الأعصر, أنهاه إلى هذه الحياة العلمية الخصبة، وجعله أرفع جامعة إسلامية تاريخية.
تطور تسمية الجامع الأزهر
سمي هذا الجامع عقب إنشائه بجامع القاهرة, باسم العاصمة الجديدة, وظلَّ معروفًا بهذا الاسم زمنًا طويلًا، ثم زاحمه الاسم الجديد (الأزهر)، ولكنا لا نستطيع أن نحدد نشوء التسمية الجديدة. وقد ظل معروفًا باسمه القديم إلى القرن التاسع الهجري؛ إذ ذكره المقريزي في خططه بهذا الاسم مضافًا إليه اسمه الجديد (الأزهر)، فقال: "وهو الجامع الذي يعرف في وقتنا هذا بالجامع الأزهر, ويسمى في كتب التاريخ بجامع القاهرة".
بل ذكره ابن خلكان -وقد كتب كتابه في القرن السابع الهجري بما يفيد تداول الاسم الجديد- فقال في ترجمته جوهر: "وأظن هذا الجامع هو المعروف بالأزهر". واشتهاره في عهد ابن خلكان بهذا الاسم يدل على أنه عرف به من قبل ذلك, لكن في زمنٍ غير معروفٍ بالتحديد. وبعضهم يرى أن هذه التسمية الجديدة سرت إليه بعد إنشاء القصور الفاطمية في عهد العزيز بالله, وقد كان يطلق عليها القصور الزاهرة. هذا, وقد تُنُوسِيَ الاسم الأول, وغلب الاسم الجديد عليه إلى اليوم, فأصبح معروفًا به فحسب.
وأما سرُّ هذه التسمية؛ فيرى فريق من المؤرخين أنه سُمِّيَ بذلك تفاؤلًا بما سيكون له من الشأن العظيم والمكانة الكبرى بإزهار العلوم فيه. وفي دائرة المعارف الإسلامية, أن إنشاء الفاطميين لهذا المسجد يفسر الاسم الذي أطلق عليه, فقد قيل أن الزهر إشارة إلى الزهراء, وهو لقب فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي سُمِّيَ باسمها أيضًا مقصورة في المسجد [3].
موقع الجامع الأزهر
ما برح هذا الحصن الشامخ قائمًا في مكانه الذي شُيِّدَ به, منذ أكثر من ألف عام, وما زالت فيه بقية من أبنيته الفاطمية الأولى تحتل مكانها الأول داخل الصرح القائم, وهي تكاد تبلغ نصف المسجد الحالي.
عناية الخلفاء والأمراء بالجامع الأزهر
قال ابن ظهيرة في ذكر ما اختصت به مصر والقاهرة وأهلها من محاسن وفضائل، وما شاركها فيه غيرها: "جامعها الأزهر بالخصوص فليس في الدنيا الآن، فيما أعلم، له نظير ولا ينقطع ذكر الله تعالى عنه طرفة عين في ليل ولا نهار، وفيه أروقة لأصناف من الخلق (منقطعين لعبادة الله تعالى. والاشتغال بالعلوم وتلاوة القرآن، لا يفترون ساعة" [4].
من أجل ذلك نظر الخلفاء العبيديون الفاطميون إلى الأزهر نظرة عنايةٍ ورعايةٍ, فأدخلو عليه تجديدًا, وأحدثوا به تعميرًا في أزمنة مختلفة, وأعانوا على نشاط العلم والدراسة فيه؛ فهيأوا الأسباب لذلك. وقد ذكر المقريزي أن أول من رتب من الملوك لأهل الجامع الأزهر, وبنى لهم مسكنًا هو الملك العزيز بالله نزار بن الملك المعز لدين الله، وأن أول من رتب لهم من الأمراء صلةً وزيره أبو الفجر يعقوب بن كلس, وقد سأل هذا الوزير الخليفة سنة 365هـ في صلة رزق جماعة من العلماء؛ فأطلق لهم ما يكفي لكل واحد من الرزق الناض, وأمر لهم بشراء دارٍ وبنائها, فبنيت بجانب الجامع الأزهر.
وقال المقريزي في موضعٍ آخر من خططه: "وجعل الحاكم بأمر الله للجامع الأزهر تنورين وسبعة وعشرين قنديلًا من الفضة, وشرط أن تعلق فيه في شهر رمضان". ثم رتب له الحاكم في سنة 400هـ مع بعض المنشآت الفاطمية الأخرى أوقافًا ينفق من ريعها على إدارته وشئونه, فكانت هذه أول وقفية رتبت للجامع الأزهر. ثم قام الخليفة المستنصر بالله فجَدَّدَ الأزهر، وقام بتجديده من بعده, الحافظ لدين الله, وأنشأ فيه مما يلي الباب الغربي مقصورةً عرفت بمقصورة "فاطمة الزهراء".
ولم يطرأ على بناء الأزهر في العهد الأيوبي شيء بارز، فقد عمل صلاح الدين الأيوبي على محاربة الشيعة ونشر المذهب السني، فأبطل خطبة الجمعة بالأزهر اكتفاء بإقامتها في جامع واحد بالمدينة وهو جامع الحاكم بأمر الله. وظلت معطلة في أكثر من مائة عام إلى أن أعيدت إليه في أيام السلطان المملوكي بيبرس البندقداري (1260م - 1277م).
وفي عهد المماليك بلغ الاهتمام بالأزهر ذروته. وكان ذلك بمنزلة العصر الذهبي للأزهر. ففي عهد الملك الظاهر بيبرس سنة 658هـ قام الأمير عز الدين أيدمر الحلى نائب السلطان بعمارته وتجديده تجديدًا شاملًا, وأعاد إليه جدته وبهجته, بعد أن كان قد تطرق البلى إليه.
وفي سنة 702هـ / 1302م في عهد السلطان محمد الناصر قلاوون وقعت بمصر زلزلة عنيفة سقط بها منشآت عدة, منها: الجامع الأزهر, فقام أمراء الدولة بعمارة هذه المنشآت, وتولى عمارة الجامع الأزهر الأمير سلار. وأنشأ علاء الدين طيبرس مدرسته التي عرفت باسم "الطيبرسية؛ لتكون ملحقًا للأزهر, وكمل بناؤها سنة 709هـ / 1310م وقرر بها درسًا للشافعية، وتشغلها الآن دار الكتب الأزهرية.
وفي عهد السلطان الملك الناصر حسن بن محمد قلاوون اهتم بالأزهر الأمير سعد الدين بشير الجامدار إذ قام بتجديده سنة 760هـ/ 1360م وأمر بتبليطه وتبييضه ومنع الناس من المرور فيه ورتب فيه مصحفاً، وجعل له قارئاً وأنشأ على بابه حانوتاً لتسبيل الماء العذب، ورفع فوقه مكتباً لإقراء أيتام المسلمين، ورتب للفقراء من مجاوري الأزهر طعاماً يومياً، ورتب درساً لفقهاء الحنفية في المحراب الكبير، وأوقف على ذلك أوقافاً مُجزية، فكان مؤذنو الجامع يدعون للسلطان حسن كل جمعة وبعد كل صلاة.
تعرضت منارة الأزهر القديمة للسقوط عدة مرات. سقطت أول مرة سنة 800هـ/ 1397- 1398م فأعادها السلطان برقوق. وسقطت ثانية سنة 817هـ/ 1414م وثالثة بعد عشر سنوات وتم إصلاحها، كما أن السلطان المذكور أنشأ خزاناً للماء وأقام سبيلاً وميضأة.
وأمر السلطان الأشرف قايتباي بإجراء إصلاحات في الأزهر سنة 881هـ/ 1476م وأنشأ المنارة الرشيقة ذات الزخارف الجميلة في الناحية الغربية وأقام منشآت للفقراء والعلماء وعُرف عنه أنه كان يتردد على الأزهر للصلاة متخفياً ويسمع ما يقوله الناس فيه.
وأنشأ السلطان قانصوه الغوري سنة 915هـ/ 1510م المنارة الجميلة ذات الرأسين وتعدُّ من أجمل الآثار التي تعود إلى عهد المماليك في مصر.
وفي العهد العثماني أجرى السلطان سليم الأول الذي دخل مصر سنة 923هـ/ 1517م أرزاقاً على الأزهر، وبقي هذا الجامع موضع اهتمام الولاة العثمانيين. فقد جدد والي مصر الشريف محمد باشا بناءه سنة 1014هـ/ 1605م وكذلك جدده بعد نحو قرن الأمير إسماعيل القاسمي، ومن الآثار المهمة في الأزهر المِزْولة الميقاتية وتقع في غربي الصحن، أهداها والي مصر الوزير أحمد باشا كور سنة 1163هـ/ 1750م وتحتها الأبيات المنقوشة: "مِـزْولة متقنة نظيرها، لا يـوجد راسمها حاسبها، هذا الوزير الأمجد تاريخها، أتقنها وزيـر مصر أحمد".
وأعظم ما شهده الأزهر في العهد العثماني هي التي قام بها الأمير عبد الرحمن كتخدا القازدغلي في أواخر القرن الثاني عشر الهجريِّ؛ إذ أنه أنشأ بهوًا فسيحًا يشتمل على خمسين عمودًا من الرخام تحمل مثلها من الأقواس المقوصرة في الناحية الشرقية من الجامع, كما أنشأ به منبرًا ومحرابًا جديدين, وأقام في أعلاه مكتبًا قائمًا على عُمُدٍ من الرخام, يتعلم به يتامى الأطفال المسلمين القرآن, وجدد المدرسة الطيبرسية، وأنشأ رحبةً فسيحةً شيد فيها قبره الذي عقدت قبة عليه, كما أقام بالجامع منارتين جديدتين, وأنشأ بالباب الذي ينتهي إليهن شارع الأزهر، وهو بابٌ سامقٌ عظيمٌ.
أما الأسرة العلوية, فكانت دائمة العطف عليه, سخيَّةً في البرِّ به, تعنى بإصلاحه وتجديده, وتكفل له كل ما يتطلبه, وفي عهد الملك فؤاد الأول, أنشئت كليَّاته على نظامٍ مثمرٍ, ووجد بالتخصص في فروع العلم للإجادة والتبريز فيها, وبذل المال الضخم لإزالة ما حول الأزهر من مساكن, طالما حجبت جماله ورونقه, وبُدِئَ في إنشاء مساكن للطلبة, وإدارة للأزهر, وقد جاءت آيةً في الإبداع والروعة، وفي العزم أن تنشأ له مبانٍ خاصةٍ لكلياته، وما تتطلبه الحياة الجامعية فيه على أفخم طراز.
وفي عهد الاستقلال تمتَّع الأزهر بكريم الرعاية, وعظيم العطف, بفضل روح المصريين المعنوية التي وجدت بهم, ومن غريز طباعهم التي وجدوا عليها, وبفضل روحهم المعنوية التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم, فساهموا بنصيبٍ وافر من أموالهم؛ ففرش بالبسط الثمينة الفاخرة على سعة رقعته, ولا يزال علماؤه موضع الشكر للجمهورية المصرية [5].
وصف الجامع الأزهر
يتألف بناء الجامع الأزهر من قسمين، الأول مسقوف ويُعرف بالحرم، والثاني مكشوف ويسمى الصحن. ويسمى هذا الحرم اليوم بالحرم القديم، وفيه محراب يُعرف بالقبلة القديمة وكان بجانب المحراب منبر نُقل فيما بعد إلى جامع الحاكم (نسبة إلى الخليفة الحاكم بأمر الله). ويضم الحرم القديم ستة وسبعين عموداً من الرخام الأبيض تنتظم في صفوف متوازية، والجدران مزينة بالآيات القرآنية المنقوشة بالخط الكوفي الجميل.
وسقف الحرم من الخشب المتقن الصنع، وفي الحرم نوافذ للنور والهواء، وأما صحن الجامع فأرضه مرصوفة بالحجر، وتحيط به الأروقة ذات الأعمدة الرشيقة. وكان للأزهر في البداية منارة واحدة ومحراب واحد، ثم أنشئت فيما بعد منارات أصبحت خمساً، كما تعددت المحاريب حتى بلغت ثلاثة عشر محراباً لم يبق منها إلا ستة.
وللجامع الأزهر ثمانية أبواب، في الجانب الغربي الخارج إلى ميدان الأزهر بابان: باب المزينين، والباب العباسي الذي أنشأته وزارة الأوقاف في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني. وفي الجانب الجنوبي : باب المغاربة، وباب الصعايدة، وباب الشوام. وفي الجانب الشمالي باب الجوهرية. وفي الجانب الشرقي باب الحرمين وباب الشوربة.
وينقسم إلى رواقين، الرواق الكبير وهو القديم ويلي الصحن ويمتد من باب الشوام إلى رواق الشراقوة. والرواق الجديد ويلي القديم ويرتفع عنه بمقدار درجتين. وسقف الرواقين من الخشب. والمنبر الحالي للجامع من الخشب الخرط وهو حديث. أما المنبر الأصلي فقد نقل إلى جامع الحاكم. وفي الرواق الجديد محرابان، وفي الرواق القديم محراب واحد يُعرف بالقبلة القديمة [6].
تاريخ التعليم في الأزهر
كان مسجد عمرو بن العاص بالفسطاط, أول مدرسة دينية في مصر, ولم يكن يدرس به إذ ذاك إلا علوم اللغة والدين؛ من قرآن وحديث. ثم كان من بعده مسجد أحمد بن طولون مقرًّا هامًّا لتلقي هذه العلوم, التي كانت وحدها مقومات الفكر في ذلك الوقت.
حتى إذا دخل الفاطميون مصر, وأسسوا بها القاهرة, اتجهت رغبتهم إلى مؤسسةٍ دينيةٍ تنافح عن مذهبهم الشيعيِّ, وتدعو إليه, فأنشأوا الجامع الأزهر، وتمَّ للفاطميين غرضهم بعد ذلك بعامين, حين عين له العزيز بالله بن المعز لدين الله أساتذته الأولين. ولم تكن الدراسة إذ ذاك تعدو اللغة العربية والدين والفقه. وأسهم الأزهر بدور وافر في تخريج العلماء وفي مقدمتهم الفقهاء والمحدثون، كما شهد الأزهر مجالس الحكمة للنساء مثل مجلس أم زينب فاطمة بنت عباس المعروفة بالبغدادية وكانت وافرة العلم.
ثم جاء الأيوبيون فأغضوا عن الأزهر بإنشاء المدارس الأخرى, ودُرِّسَ بها المذهب الشافعيُّ, وإن صحبته المذاهب الأخرى، وأخذت مدارسهم تجتذب إليها كثيرين ممن كان الأزهر يزخر بهم، وبلغ عددهم زمن المقريزي، خمسًا وأربعين مدرسة، وفقد الأزهر مكانته الخاصة التي كانت له في العهد الفاطمي، ومع ذلك بقيت له الصبغة الجامعية وقصده مشاهير العلماء، منهم الطبيب عبد اللطيف البغدادي وقد تولى تدريس المنطق وعلم الكلام والبيان والطب. وشهد الأزهر أيضاً نشاطاً فكرياً للمتصوفة من أمثال ابن الفارض وأبي القاسم المنفلوطي والمؤرخ ابن خلكان صاحب كتاب وفيات الأعيان.
وبعد أحقابٍ طوالٍ تطور الأزهر مع الزمن, وتأثر بالحركة الثقافية؛ فبدأت به دراسة الفقه على المذاهب الأربعة, وبعض العلوم الأخرى؛ كالحساب والهندسة والفلك، ومن ذلك الوقت, أصبح للأزهر أهميةً بالغةً, وشهرةً ذائعةً في ربوع العالم كله, وتَكَوَّنَ في مصر جَوٌّ علميٌّ راق, يمد الطلاب بقسطٍ وافرٍ من علوم الحياة, ويهيئ للأساتذة العلماء فرصة الانقطاع للدرس, وأخذ العلم ينبعث من أقطار الأزهر, ويشع في مختلف البلاد الإسلامية، وأصبح شرفًا عظيمًا أن ينتسِبَ الطالب إليه.
ولكن العناية انقبضت عن الأزهر في مستهلِّ القرن السادس عشر الميلاديِّ؛ إذ أخذ الضعف يدب فيه وقت الفتح العثماني, وركدت علوم اللغة والآداب, بعد أن كانت موضع دراسةٍ مستفيضةٍ, وأصبحت دراسة الفقه والحديث جامدةً تستظهر, وتتخذ في العلم بها مظهرًا شكليًّا محضًا، وزالت منه علوم الحياة على وجه التقريب إلّا ضربًا من الحساب للحاجة إليه في مسائل المواريث, وطرفًا من مبادئ علم الهيئة لضبط المواقيت, وتحديد مواعيد الصلاة, وبعض نظريات الهندسة والفلك وأشباه ذلك.
مواد الدراسة في الأزهر
كانت العلوم الدينية في مقدمة العلوم التي تدرس بالأزهر, وهي: علوم القرآن, والحديث, والكلام, والأصول, والفقه على مختلف المذاهب. وأوّل ما درس بالأزهر المذهب الشيعي، وقد بقي هذا المذهب منتصرًا في مصر قضاءً, وفي الأزهر دراسةً, حتى انقرضت دولة الفاطميين سنة 567هـ, فعادت لمصر دراسة المذاهب الأربعة.
وكان في مقدمة العلوم التي تدرس بالأزهر أيضًا, علوم اللغة؛ من نحو, وصرف, وعلوم البلاغة, والأدب, والتاريخ. ولما خفت الحدة المذهبية, أخذ الأزهر بنصيب وافر من العلوم المدنية, إلى جانب العلوم الدينية، وكانت الفلسفة, والطب, والمنطق, والرياضة, تدرس بالأزهر, إلّا أنها في نطاقٍ ضيقٍ, ولفريق خاصٍّ من طلابه.
وبعد ذهاب الدولة الفاطمية في أواخر القرن السادس, وفي مستهلِّ الدولة الأيوبية, أصبح الأزهر مدرسةً حرةً تدرس فيها العلوم العقلية والمدنية بجانب العلوم الدينية, وإن كانت الصبغة الدينية لا تزال هي الغالبة [8]. ومن أشهر العلماء الذين ارتبطت أسماؤهم بالأزهر: ابن خلدون، وابن حجر العسقلاني، والسخاوي، وابن تغري بردي، والقلقشندي، وتقي الدين الفاسي، وغيرهم من العلماء.
مما سبق
نرى أن الأزهر جامعًا وجامعةً قلعة من قلاع مصر والإسلام، حمل لواء المعرفة والعلم قرونا متصلة، وقام بنشر العقيدة الصحيحة، ولم يبخل بعلمه على الأمة الإسلامية وخلال تلك المسيرة تسلح بالعلم والمعرفة، جعلت منه درعا له ولأمة الإسلام.
[1] البستاني: دائرة المعارف، ص65.
[2] المقريزي: الخطط، 2/ 273.
[3] خطط المقريزي، 1/ 363. تاريخ الأزهر لبيرم.
[4] ابن ظهير: الفضائل الباهرة في محاسن مصر والقاهرة، تحقيق: كامل المهندس ومصطفى السقا، القاهرة، وزارة الثقافة، 1969م، ص190.
[5] المقريزي: الخطط، 2/ 275. حسن عبد الوهاب: تاريخ المساجد الأثرية، 1/ 52. محمد كامل الفقي: الأزهر وأثره في النهضة الأدبية الحديثة، 1/ 7 - 20، بتصرف.
[6] محمد عبد الله عنان: تاريخ الجامع الأزهر، القاهرة : مكتبة الخانجي، 1958م. عبد العزيز الشناوي: الأزهر جامعا وجامعة، القاهرة، 1983م. سعاد ماهر: مساجد مصر، 1/ 165 - 225.
[7] محمد كامل الفقي: الأزهر وأثره في النهضة الأدبية الحديثة، 1/ 23 - 32، بتصرف.
قصة الاسلام