بادئ ذي بدء نعترف أننا حاولنا ما أمكن تبسيط مسألة القبالة، التيار الديني اليهودي الذي يعرف انتشاراً هامّاً اليوم، لكننا مع ذلك لا نعتقد أن محاولتنا تكللت بالنجاح، لأن الدخول في عالم القبالة الرائع لا يشبه غير إبحار في محيط لا تعرف لجته.
كانت القبالة بالنسبة لي عالماً باطنيّاً يكتنفه الغموض؛ وكنت دائم الحديث مع الأب الصديق اسبيرو جبور حول ما إذا كان فيلسوفي اليهودي المفضل، ابن ميمون، قبالياً أم لا. بالمناسبة، أصدر قريباً كتاباً متوسط الحجم عن رام بام. في كورونا، ضاحية لوس أنجلوس الجميلة، تعرفت بفتاة عربية تحولت إلى القبالة؛ ولم أحاول أن أسألها عن ديانتها الأصلية. اقترحت علي أن تأخذني إلى بيفرلي هيلز القريبة كي تقدّمني إلى حاخام قبالي هناك، من أصول مكسيكية. دخلنا الكنيس الجميل في هوليوود، الذي ذكّرني بناؤه البسيط الرائع بكنائس السريان القديمة في منطقتنا شرق حمص. كان الكنيس بحيويته المتلاطمة بعيداً جداً عن الكنيسين اللذين اعتدت أن أشارك فيهما الصديق الحاخام البير بعض الطقوس في الأعياد، أقصد كنيسي جوبر والإفرنج: كان الكنيسان الدمشقيان ينضحان بالجدية التي تقارب طيوف التجهم. في الكنيس القبالي أحسست بالعيش، إن في الطقوس أو في البناء. صحيح أن فكرة أن هذا الحاخام هو من " هدى " الفنانة مادونا إلى اليهوديّة كانت المسيطرة قبل أن أدلف إلى المكان؛ لكن تلاطم أحاسيس الحياة أخسف الفكرة الأولى لصالح فرح حب لا يتكاسل. ولما عرضت علي الصديقة العربية أن أصبح قبالياً، ترددت كعادتي قبيل الرفض. لكني أصررت بالمقابل على أن لا أعود إلى الكنيس وحاخامه الأسطوري لأني ضعيف أمام العيش... وجماله.
ماهي... القبالة؟
مصطلح " قبالة קַבָּלָה" مشتق من الجذر " قبل "؛ وفي نصوص العصور الوسطى الأولى، كان المصطلح يعني عموماً " القبول "، أي تقليد مقبول، وهو يتعلّق أساساً بالمسائل الهالاخيّة. منذ بداية القرن الثالث عشر، صارت كلمة قبالة التسمية الرئيسة التي تطلق على التقاليد الصوفيّة اليهوديّة، التي تتناول حصراً المسألتين التاليتين:
1- فهم ثيوصوفي [ من ثيوس اليونانيّة وتعني إله؛ وصوفيا التي تعني باليونانيّة أيضاً حكمة ] لله، مرتبط مع منظور رمزي للواقع ومفهوم ثيورجي [ الثيورجيا هي تدخل الإله في الطبيعة أو في الأمور البشريّة كما هي الحال في المعجزة أو القوة التي يمتلكها كائن بشري لمنع فعل إلهي كهذا، خاصة القوة السحريّة التي اعتقد بعض الأفلاطونيين الجدد أنه يمكن الحصول عليها بالتمرّن الطويل والطهارة الذاتيّة وما هو سرّاني mystic من تعاليم وأعراف ] للحياة الدينيّة.
2- طريقة الوصول إلى اختبار صوفي [ من تصوف لا صوفيا التي تعني الحكمة: هل بالإمكان الربط بين تصوف وصوفيا؟] للإله عبر قراءة الأسماء الإلهية. لهذين التقليدين جذورهما المغرقة في قدمها؛ مع ذلك، فمصطلح " قبالة " يشير عموماً إلى التصوّف اليهودي منذ القرن الثاني عشر وما بعد.
تاريخ الحركة:
إن أقدم دليل مكتوب على وجود فكر ثيوصوفي وثيورجي في اليهودية يأتي من البروفانس، الإقليم الواقع في الجنوب الفرنسي، في النصف الثاني من القرن الثاني عشر. إن سلسلة من الكتّاب الهالاخيين المعروفين، بدءاً بأبراهام بن دافيد ويعقوب الناصري، ثم موزيس ناحمانيدس وتلميذه الأهم، شلومو بن أبراهام أدريت، كانت قباليّة بالكامل؛ مع أن نتاجها القبالي الأدبي، مقارنة بكتاباتها الهالاخيّة الضخمة، كان ضئيلاً. لكن مما لا شك فيه أن هذا الوضع جاء نتيجة لخطة مدروسة تقتضي بجعل القبالة مسألة معرفة سرّانيّة مقصورة على نخبة صغيرة للغاية. في بداية القرن الثالث عشر، بدأ حجاب السريّة بالاختفاء. فقد عُرف يصحاق ساغي ناحور ( يصحاق الأعمى )، وهو ابن أبراهام بن دافيد، كمعلّم لقباليين عديدين، كان أشهرهم يصحاق، ابن أخ أشير بن دافيد وعزرا الذي من خيرونا. وهؤلاء كتبوا أولى الوثائق القباليّة، التي تكونت من شروح لموضوعة تكوين العالم، في سفر التكوين ( براشيت ) التوراتي، وشرح لأسباب الوصايا. أثناء هذه الفترة، بدأ تلاميذ يصحاق يتداولون مقالة هامة تدعى " سفر ها-بهر " ( سفر النور )، المنسوبة خطأ إلى نحونيا بن ها-قنا، وهو صوفي من القرن الثاني. ورغم أن المبادئ القباليّة التي دمجت في تلك الأعمال قدّمت بطريقة متشظيّة وغامضة، يبدو أنها عكست منظومات فكريّة معقدة سبقتها كمصادر بعقود إن لم يكن بقرون عديدة.
إسبانيا
في منتصف القرن الثالث عشر، قدّم قباليّو إسبانيا أعمالاً ضخمة، كانت في واقع الأمر استمراراً لخطوط أسلافهم الرئيسة ذاتها؛ وكان أهمهم: عزرئيل الذي من خيرونا ويعقوب بن شيشيت. وبعد ازدهار قصير الأمد في كتالونيا، انتقل مركز الإبداع القبالي إلى قشتالة، حيث عرف نهضة كبيرة. في قشتالة، قدمت مجموعة من القباليين مجهولي الهويّة سلسلة مقالات قصيرة، تعرف باسم أدب " عيّون " ( تأمّل )، والذي ضمّ أدب المركبه ( تفاسير وتعليقات على رؤيا المركبة في سفر " حزقيال " ) القديم إلى صوفيّة النور الأفلاطونيّة-المحدثة. اهتمت جماعة أخرى بثيوصوفيّة الشر حيث وصفت تفصيليّاً بنية " الجانب الآخر "، أي، العالم الشيطاني. وكانت هذه الجماعة تضم: الأخوان يعقوب ويصحاق؛ أبناء يعقوب ها-كوهن؛ موشيه الذي من بورغوس؛ وطودروس أبو العافية. وتظهر أفكار هاتين المدرستين القباليتين في أهم عمل قبالي، " زوهر "، المكوّن من مجموعة كتابات صوفيّة كانت متداولة بين قباليي قشتالة منذ عام 1280. وبين الأعوام 1285 و1335، قدّم القباليون لزوهر ترجمات وتفاسير وأعمالاً تقلّده، موجودة كلّها في مخطوطات، ساهمت في قبول زوهر أخيراً ككتاب شرعي.
بسبب الجدل العنيف بين أبراهام أدرت، ممثّل الشكل المحافظ للقبالة الذي تحافظ على القبالة القديمة وتنقلها، وأبراهام أبو العافية، أبرز نصير للقبالة الوجدية، فقد رفض أنصار القبالة الإسبانيّة العناصر الإبداعيّة التي تنسب للأخير، الأمر الذي ساهم في ركود القبالة الصريح في الهزيع الأخير من القرن الرابع عشر ومعظم القرن الخامس عشر.