ازدهرت مظاهـر الحضارة والعمـران في عهد بني مرين الذيـن أصبحوا أقـوى ملوك إفريقيا، إذ بالرغـم من محدثهم الصحراوي، فإن هؤلاء الرجال استطاعوا بفضل اتصالهـم المزدوج ببني نصر ورثة الحضـارة الأندلسية وبالموحدين التكيف والانسياق في مجرى الحضارة تبعا للمقتضيات المدنيـة مع استمداد من معطيات الفكر الإسلامي والمجالي الطريقـة في التجديد، وقـد تبلور اتجاههم في إقامـة المدارس المحصنة والمساجـد وقباب الأضرحة والفنادق المزخرفـة والمدارس الفخمة التي أضفت على المغرب المريني طابعًا خاصًا من الروعـة والبهاء. وقد لاحـظ الأستاذ ألفريد بيل عن حق أنه خلافًا لتقاليـد الشرق كان الملوك في طليعـة من تبني تأسيس المعاهـد، في حين تكفل بذلك الوزراء في المشرق.
ولنضرب مثلًا للفن المريني الرائـع ببعض المآثر التي ما زالت قائمـة برباط الفتح، ومنها الجامع الكبير الواقـع قرب باب شالة، الذي تحـده في الجنوب الشرقـي مقبرة تمتد إلى السور الأندلسي.
تاريخ بناء الجامع الكبير
وقد كتب على إحـدى أبواب الجامع الكبير تاريخ (1299هـ =1882م) وهو تاريخ تجديد البنـاء في عهد الحسن الأول، كمـا أن لوحـة التحبيس المرينية وهي صفيحـة مربعة من الرخـام مغروزة في إحدى الأساطين المحيطة بمكان العنزة هي نفسها التي كانت على ضريح السلطان أبي الحسن بشالة، ونقلت إلى المسجد في عهـد مولاي اليزيد العلوي إلا أنهـا لا تشير إلى الجامع الكبير، كما يوجـد المارستان العزيزي قبالته. وقد أدخـل الملك المرحوم محمد الخامس، على المسـجد عدة إصلاحات.
وقد اختلف المؤرخون في تاريخ بناء الجامع الكبير، فأكد مؤرخ سلا محمد بن علي الدكالي أنه من مؤسسات الأندلسيين الذين وردوا على المغرب في عهـد السعديين أي في القرن الحادي عشر مستندًا إلى مـا استنتجه من كتاب "وصف إفريقيا" للحسـن الوزان من عدم وجود أي أثر لبنـاء بالرباط في عصره أي في القرن العاشر، إلا أن مؤرخ الرباط محمد بوجنـدار يرجح أن المسجـد من مآثر المرينيين، ويعلل ذلك بوجود المارستان العزيزي قبالتـه، ويكون إحدى الأبواب وقد رممت في عهد السلطان المريني أبي الربيع وهي وجهـة سديدة وإن كانت التعديلات اللاحقـة قد غيرت معالم الأصل.
الوصف المعماري للجامع الكبير
ويبلغ عرض المسجـد على طول جدار القبلة 47,5م، ويزيـد عمقه بمتر واحد على عرضه بإدراج مقصورة الإمام، إلا أن شكله الهندسي غير مربع نظرا لعـدم تساوي أضلاعـه، أمـا مساحته البالغة 1800م فإنها تجعل منـه أعظم مسجـد بالرباط بعد جامع السنة.
وهو يحتوي على سبعـة صحون موازيـة للقبلة وعشرة عموديـة أما الساحـة فشكلها مربع منحرف عرضه أكبر من طوله تحيط به ثلاثـة أبهاء أقيمت في أحدهـا (مقصورة للنساء) وبالجانب الشمالي الغربـي (المنارة)، وللمسجـد ستة أبواب وعلى طول جدار القبلة عـدة مرافق تتصل بفرع للمكتبـة العامة بالرباط، يفصل اليوم المسجد عـن المقبرة. وهذه المرافق هي مستودع المنبـر ومقصورة الإمام وجامـع الجنائز.
أمـا الأقواس فإنها ذات أشكال وأحجـام مختلفة، إلا أن الحنايا التي يستنـد إليها الرواق أمـام المحراب تلفت الأنظار بميزاتهـا الخاصة إذ هي عبارة عن حنايا مفصصة قد نحتت فيهـا قوسيات تصل إلى ثلاثـة عشر متشابهـة عدا قويس الانطلاق وقويس الانفتاح، أمـا الأقواس الأخرى فمعظمها حنايـا مكسورة وحدويـة (على شكل حدوة الفرس أي نعله) أو مشرعـة (أي سهمها أكبـر من نصف الانفتاح)، كمـا أن معظم السطوح ذات انحدار مزدوج في شكـل برشلات، أو جملونيـات دون قرميد ولا تليق.
أمـا المحراب فإن قوس انفتاحـه حدوي الشكل كنعل الفرس الحديدي متقارب المركزين غير بارز الكسر يستنـد إلى عضادتيـن عاليتين. وقد ازدوج بقوس آخـر خارج عن المركز في جوف قد نحتت نقوش رائعـة في جيبـه اللامـع وعلته قبة مثمنـة بنفذ منها النور من ثغرة مثمناتهـا مع المجموع.
أما الصومعة فإنها مربعة الشكـل، تبلغ أضلاعها 5,10م وقد زيـد في ارتفاعها عام 1358هـ =1939م، فبلغت من العلو 33,15م، بينمـا لم تكن تصل من قبل على أكثر من 27م وتحتوي الصومعـة على ست غرف مربعـة الواحـدة فوق الأخرى تغطيها أقيبة متصالبة الروافد تؤدي إحداهـا إلى مخدع الموقف الواقع فـوق المصرية (أي العلية وهي من مصطلحات المغرب الأقصى)، وينفذ الضوء إلى دورات الدرج من ثغرات واسعـة مقوسة وملتويـة في أنحناء مستقيم، ويتسم المجموع بطابع البساطـة الذي يزيده روعة، أمـا ملحقات الجامع الكبير فإنهـا لا تمتاز بأهمية خـاصة، فإلى جانب ممر ضيـق يؤدي إلى (جامع الجنائز) على طول جدار القبلـة توجد مقصورة الإمام، وهي تضم غرفتين تتصل إحداهما بمستودع المنبر.
وإذا استثنينـًا النحت على الحجر في خصوص الأبواب، فإن النقش على الجبس يتوافر في المحراب وفي الوجه الداخلي للباب الكبرى وفوق الحنايا المفصصة أمام المحراب مع رسوم زهريـة متكاتفة تحيط بها خطـوط هندسية وأنضاد متراكمة من الواردات بين الأقواس دون أصباغ مع ضالـة النقوش الخشبية وتبرز في مواضع أخرى سعفيات (موردة) أو كتابات بالخـط النسخي. أمـا المنبر فهو من صنع علوي عادي برسومه الخشبيـة المنحوتة على لوحات (مأطورة).
تلك صورة عن الجامـع الكبير كما هو الآن، والبابان الشارعتـان إلى زنقة باب شالة قد أضيفتا كمنفذ خاص إلى رواق النساء، وكذلك الباب المؤديـة إلى زاوية سيدي التلمساني والفسقيتان الفوارتان في البهـو الجديد شمالـي غربي الصحن. ومن الزوائـد الطريفة في المسجـد نقوش المحراب ورواق الجنائز وترخيمات بعض الحنايا مما حفظ للجامـع هيكله العام دون كبير تعديل.
ويظهـر أن الجامع لم يكن فيـه أكثر من خمسة صحون طويلة مركزية بدل عشرة بجانب الصحون السبعة الموجودة الآن، وكانت المساكـن تحيط به من جهتين، وهـذا التخطيط متناسق الأجزاء بالنسبة للتصميم الحالـي الذي يخلو نوعـا ما من التوازن والانتظام، أضف إلى ذلك ما كانت تمتـاز به الحنايا المفصصة والمكسورة والحدويـة من تنوع ويذكرنـا الهندام المعماري في الجامع الكبير بالمساجـد المرينية في تلمسان، وخاصة في مدينة العباد حيث مدفـن (أبي مدين الغوث) فعدد الصحون الطويلة واحد فيهما مع ثمانيـة صحون موازية للقبلة هناك بدل سبعة بالرباط، ومن مظاهـر العتاقة في الجامع الكبير ضخامـة القواس المفصصة أمام المحراب وهي من خواص المساجـد المرابطية والموحديـة بكيفيـة عامة مع وجودهـا أحيانا في عهد المرينيين كما هو الحال في جامع فاس الجديد.
ولم يعد المهندس المعماري يستعمل هـذا النوع من الترخيمات في العصر العلوي وحتى بالنسبة لنقوش الحنايا يمكن التنظير بين المشبكات الهندسيـة في (الجامع الكبير) ومثيلاتهـا في منبر المدرسة العنانية بفاس وباب العنانية أيضا بمكناس، ومع ذلك فإن جامـع الرباط لا يوحي في مجموعه بنفس الارتسامـة التي يشعر بها الزائر لمدارس فاس ومساجـد تلمسان المرينية التي تمتاز بعدة ظواهر جزئيـة كبعض الأشكال الصنوبريـة (على شكل ثمرة الصنوبر) أو الزهيرات (أي زخارف نورية الشكل).
تلك معالم تشهـد بأن الجامع الكبير يرجع تاريخه إلى العهد المريني، وذلك بالإضافة إلى بعض النصوص التاريخية التي تعـزز هذه النظرية، لا سيما وأن مؤرخي العلويين مثل (الضعيف) و(الزياني) و(الناصري) لم يدمجوا هـذا المسجد في لائحة المساجـد العلوية، وربما كانت المجموعة المركبة من المسجد والسقايـة والمارستان العزيزي هي نفس ذلك الثالوث الملحوظ في جميع المساجـد مع اعتبار أن هـذا المارستان كان مدرسة كما يدل عليه شكلـه.
وهنا يجب أن نتساءل كما فعل الأستاذ "كايبي" عن تاريخ التعديلات والإضافات الطارئـة على الجامع الكبير، ويمكن أن نقارن بين هـذه وبين المظاهـر المعمارية في جامع مولاي سليمان بالرباط، وقد أسسه السلطان العلوي مولاي سليمان بن محمد بن عبد الله، فالمنارتان متساويتـان في الأضلاع والترتيبـات الداخلية والنسق الفني واحـد في السطوح والحزات الجدرانيـة التي تنصب منها مياه العظر بدل الميازيب، وذلك عـلاوة على تشابه بعض الأبـواب، ويدعـم هذا الشبه الواضـح ما أشار إليه محمد الضعيف من أن السلطان مولاي سليمـان وجه من طنجة أحد أعوانـه لمخاطبـة المعلم الحسن السوداني فيمـا يجب إنجازه من أعمال في جامع الرباط، وهكذا يمكـن التأكيد بأن الزيادات العلوية في هـذا الجامع يرجع الفضل فيها على الملك الصالـح المولى سليمان الذي قـام بهذه البادرة المثلى فوسـع المسجـد وجدد سطوحه.
__________________
المصدر: مجلة دعوة الحق المغربية، العدد 232، صفر 1404هـ = نوفمبر 1983م.