ربما بات الممثل
غاري أولدمان من بين المتنافسين على نيل إحدى جوائز الأوسكار، بفضل تجسيده لدور رئيس الوزراء البريطاني الراحل
ونستون تشرشل في فيلم "ذا داركيست أوار" (الساعة الأكثر ظلمة)، كما يرى الناقد السينمائي نيكولاس باربر.
السطور المقبلة قد تكشف لك قصة الفيلم: في يونيو/حزيران 1940، أنقذ أسطولٌ صغيرٌ من السفن والمراكب المدنية آلافاً من الجنود البريطانيين، ممن كانوا عالقين على شاطئٍ في شمال فرنسا، أما ونستون تشرشل - وهو واحدٌ ممن كانوا مسؤولين عن عملية الإنقاذ تلك - فقد مضى في طريقه بمثابرةٍ وإصرار ليقود بريطانيا لإحراز النصر على ألمانيا.
في واقع الأمر، ربما لا يشكل ما كُتِبَ في السطور السابقة كشفاً لأحداث الفيلم الذي يتناول تلك الوقائع. فمهما كان عدد دروس التاريخ التي قد يكون المرء في الغرب قد فوّتها خلال فترة التحاقه بالمدرسة، فسيكون على الأرجح على علمٍ بأن تشرشل - وفي المحصلة النهائية - أبلى بلاءً أفضل بكثير، من الزعيم النازي أدولف هتلر في الحرب العالمية الثانية.
رغم ذلك يتسم فيلم "الساعة الأكثر ظلمة" للمخرج جو رايت بطابعٍ متوترٍ على نحوٍ مذهل، بقدرٍ قد يجعلك تنسى في بعض الأحيان، كيف تمت عملية إنقاذ العالقين على شاطئ دانكيرك بنجاح، بل وربما يُنسيك هذا كذلك باقي ما حققه تشرشل من انتصارات.
ففي بعض أجزاء هذا العمل التاريخي المفعم بالقوة والحيوية، والذي أجاد صناعه اختيار أبطاله ممن برعوا بدورهم في تجسيد أدوارهم، يبدو وضع تشرشل متزعزعاً بشدة، إلى حدٍ يوحي بأنه ربما لن يبقى في منصبه حتى نهاية العام الذي تدور فيه الأحداث، ناهيك عن أن يظل فيه إلى أن تضع الحرب أوزارها.فمهما كانت صعوبة المعارك التي خاضها هذا الرجل مع هتلر والزعيم الفاشي الإيطالي بينيتو موسوليني، فقد كانت تلك التي جابه فيها ساسةً من حزب المحافظين الذي ينتمي هو نفسه إليه، عصيبةً ومعقدةً بما يكفي.
تبدأ أحداث العمل في مايو/أيار عام 1940، كما تخبرنا عباراتٌ مكتوبةٌ ببنطٍ عريضٍ للغاية على الشاشة، وذلك بوصول نحو ثلاثة ملايين جندي ألماني إلى الحدود مع بلجيكا. بالتوازي مع ذلك، يفقد البرلمان في بريطانيا الثقة في نيفيل تشامبرلين، رئيس الوزراء المحافظ الذي يعاني من مرضٍ عضالٍ، والذي جسد شخصيته في الفيلم الممثل رونالد بيكاب.
وهكذا يمنح كبار أعضاء حزب المحافظين منصب تشامبرلين إلى تشرشل (غاري أولدمان)، لأنه المرشح الوحيد الذي يمكن أن تقبل به المعارضة. لكن ظلت لدى هؤلاء الأعضاء في الوقت نفسه شكوكهم حيال رئيس الوزراء المقبل، ذاك السياسي البدين غريب الأطوار الذي أدت قراراته إلى تكبد خسائر كارثية في حملة غاليبولي خلال الحرب العالمية الأولى.
جو رايت مخرج الفيلم
نتيجةً لذلك، لم يكد تشرشل ينهي إفراغ محتويات حقائبه في مقر إقامته الجديد في 10 دواننغِ ستريت، حتى بدأ تشامبرلين وإيرل أوف هاليفاكس (ستيفن ديلان) في التخطيط لإخراجه من هناك قسراً. وكلما تصاعدت شراسة تصريحاته وخطاباته ضد هتلر، زاد يقين هذين الرجلين بأن التفاوض مع الزعيم النازي قد لا يكون بالفكرة السيئة إلى هذا الحد.
لكن تشرشل يحظى لحسن حظه بدعم سكرتيرته الساذجة "ليلي جيمس"، وهي فتاةٌ ذات شخصية ملائكية تنتمي إلى الطبقة العاملة، تخبر رئيسها بكيف يمكن أن تُفسر إشارته الشهيرة بعلامة النصر، إذا ما أشار بأصبعيّه إلى أسفل بدلاً من أعلى. كما أنه ينعم بزوجة بسيطة وعقلانية، ومخلصة له بشكلٍ كامل.
وعلى غرار الكثير من بطلات الأفلام السينمائية، يتمثل دور الزوجة كليمنتاين (كريستين سكوت توماس) في أن تهمس لبطل العمل - وهو هنا زوجها - بكلماتٍ تستهدف تشجيعه ورفع روحه المعنوية، وهي تربط له رابطة عنقه.لكن عناد تشرشل وطبيعة شخصيته وطريقة تفكيره وتصرفاته، تقلق الجميع من حوله، وصولاً إلى الملك جورج السادس نفسه
(يؤدي دوره بن مندلسون؛ ذاك الرجل الذي يجيد تجسيد نوبات الغضب بشكل ممتعٍ ومسلٍ). فعندما يقترح الملك أنه يجدر بهما أن يعقدا اجتماعهما الأسبوعي في الساعة الرابعة من بعد الظهر، يرد تشرشل بحسم قائلاً إن ذلك مستحيل، لأنه يحظى في ذلك الوقت من كل يوم بفترة نوم القيلولة.
من جهة أخرى، فبينما ركز الفيلم المذهل "دانكيرك" للمخرج كريستوفر نولان، على التصوير الدرامي لعملية الانسحاب من فرنسا، دون التطرق إلى ما سبقها من تخطيط وتحضير، يمضي فيلمنا الجديد في الاتجاه المعاكس لذلك تماماً.
فـ"رايت"، الذي قدم مشهد مطاردة لاهثاً على طول شاطئ دانكيرك استمر خمس دقائق كاملة خلال فيلمه "أتونمينت" (تكفير)، ربما شعر بأنه لن يكون في مقدوره أن يقدم ما يفوق ذلك روعة في فيلمه هذا.
ولذا، فلن نجد في "الساعة الأكثر ظلمة" سوى مشهدٍ قصيرٍ لذاك الإبحار الأسطوري لـ"السفن الصغيرة" من على شواطئ إنجلترا متجهة إلى دانكيرك، بجانب بضع لمحاتٍ عن القتال الضاري الجهنمي الذي دار في فرنسا. أما الاهتمام الأكبر للعمل فيُكرس لإظهار رجالٍ في منتصف العمر، وهم منهمكون في نقاشاتٍ لا تنتهي مع بعضهم البعض، في غرفٍ يعبق أجواءها دخانُ السيجار.
ورغم ذلك، يتعامل رايت مع عمله السينمائي الحافل بالنقاشات السياسية هذه، وكأنه فيلم حركة شديد الإثارة. وهكذا يصبح لهذه النقاشات وقعاً أشبه بالقنابل، بفضل أسلوب التصوير الخاطف للبصر والمثير للإعجاب لـ"برونو ديلبونيل"، والجُمل الحوارية القوية وغير التقليدية التي كتبها أنتوني ماكارتِن، والنقلات الرشيقة بين المشاهد بفعل المونتاج السريع لـ"فاليرو بونيلي".
وبفضل ذلك كله أيضاً، يكتسب تجوال تشرشل متمهلاً في أرجاء المقار التي يعمل فيها، قوة دفع مفعمة بالسرعة، كتلك النابعة من مطاردة سيارة.
الممثل غاري أولدمان جسد شخصية رئيس الوزراء البريطاني السابق ونستون تشرتشل
ومما لا يثير الدهشة في هذا السياق، أن جانباً كبيراً من تلك الحيوية العاصفة التي يتميز بها الفيلم، تنبثق من الأداء الجبار لشخصيته الرئيسية، حتى مع لجوء الممثل الذي يجسدها لتغيير ملامح وجهه قليلاً لكي يصبح شبيهاً بـ"تشرشل".
اللافت أن أدوات التجميل عالية المستوى تجعل أولدمان لا يبدو في نهاية المطاف شبيهاً بملامحه هو نفسه، ولا بملامح تشرشل كذلك.
رغم ذلك، تضفي الحيوية البالغة التي تومض في عينيّ البطل الحياة على شخصية رئيس الوزراء البريطاني الشهير التي تظهر أمامنا على الشاشة، لنراه يتفجر غضباً أو يندفع ضاحكاً بصخبٍ وبهجة، أحياناً خلال الجُملة الحوارية نفسها، دون أن يمنع ذلك من أن نشاهده هو ذاته، وقد شُلَّ تقريباً عن الحركة، بفعل إصابته بنوبة من نوبات الاكتئاب.
لكن هذا الفيلم، لا يمثل تجسيداً درامياً حافلاً بالإطراء لشخصية تشرشل، دون تحفظات. فمكمن البراعة والذكاء البالغيّن في العمل، يتمثل في أنه بينما نميل في لحظةٍ ما لافتراض أن السياسات المتشددة التي تبناها تشرشل كانت هي النهج الصحيح وأن خصومه ليسوا سوى جنباء مغرورين؛ نجد أن أحداث العمل لا تؤكد لنا ذلك تماماً.
فتشدقه حول القتال إلى آخر رجل، يمكن أن يبدو لنا - كما قُدِمَ في الأحداث - موقفاً متعصباً على نحو خطير، كما قد تبدو النداءات المدروسة التي يطلقها هاليفاكس من أجل إجراء مفاوضات سلام، عقلانيةً على نحوٍ مقنع.
ورغم أن الفيلم لا يجعلك بالقطع تصل إلى مرحلة تأييد موقف هاليفاكس، الذي تُظهره الأحداث متملقاً وذا أسلوبٍ كالحرباء بشكلٍ مفرط إلى حدٍ يحول دون وقوفك إلى جانبه، فإن العمل يتيح لك الفرصة للتعرف على الأسباب التي حدت بالبعض إلى عدم تأييد تشرشل.
مع ذلك، يختل توازن السيناريو قرب نهاية الفيلم، بفعل مشهديّن ممليّن وذوي إيقاعٍ متثاقلٍ وبليد. أولهما عبارة عن جلسة ثنائية تجري في جوف الليل، لتوطيد الأواصر بين تشرشل والملك جورج، وهو لقاءٌ تسوده أجواءٌ ودية، ويوحي ما يدور فيه من حديث بأن العائلة الملكية هي التي أنقذت بريطانيا من الخطر النازي.
أما الثاني فيجمع رئيس الوزراء البريطاني الراحل بمجموعة دراسة مركزة تتألف من أشخاصٍ مرحين مبتهجين قادمين من شرق لندن، يبدون على استعدادٍ كاملٍ لتأييد كل ما يتفوه به هذا الرجل. ويُظهرهم المشهد وقد جاءوا لكي يؤكدوا لتشرشل أنهم سيبقون مؤيدين له إلى نهاية المطاف.
ويؤدي هذان المشهدان - اللذان يُعزَفُ فيهما على الاستمالات العاطفية بشدة - بجانب بضعة مشاهد نمطيةٍ أخرى، إلى الحط من القيمة السينمائية لهذا الفيلم، ليصبح فيلماً جيداً لا عملاً عظيماً.غير أن هذا لا ينفي أن هناك بالقطع ملمح عظمةٍ ونبلٍ في الطريقة التي يجسد بها أولدمان شخصيةً أداها بالفعل من قبله عددٌ كبير من الممثلين، إذ يؤديها هنا باقتدارٍ يجعلها وكأنها باتت ملكاً خالصاً له، بكل معنى الكلمة.
ولذا، فلا يجدر بك أن تراهن على أنك لن تراه في ليلة توزيع جوائز الأوسكار،
وهو يشير بعلامة النصر، سعيداً بحصوله - ربما - على إحدى جوائزه