بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين
( تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ).
تعريف النبي (ص) على السبـل كلهـا والملكـوت
هذا القرآن الحكيم الذي هو كلام رب العالمين ، أنزله إله عزيز لا حاجة له إطلاقاً بإقبال عباده عليه ، إلا أنه رحيم بعباده ، فأرشدهم – برحمة منه – إلى الصراط المستقيم ، ليحذروا السقوط عنه ، ثم أنذرهم في هذا القرآن وحذّرهم من الزلل : (( لتنذر قوماً )) حتى يتم بواسطة هذا القرآن إنذار قوم لم ينذر آباؤهم فظلوا دون علم بحقائق الأمور.
إن في هذا إشارة إلى زمان ( الفترة ) الممتدة قبل عهد رسول الله (ص) لعدة مئات من السنين ، دون أن يبعث فيها نبي مرسل ينذرهم : (( فهم غافلون )) ولكن الله تعالى ، منَّ على أهل هذا الزمان فبعث إليهم "نوره" محمداً (ص) ، ودله على السبل كلها : الدنيا والآخرة ، الملك والملكوت ، الجنة وجهنم ، لينذر هذا الخلق ، فأطلعه ليلة المعراج على ملكوت الأشياء ليُبلِّغ الخلق ويقوم بإنذارهم .
كـون مشـركي مكـة مـن أهل جهنـم " خبـر غيبـي "
( لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ )
حق أي ثبت ، تحقق ، صار من المسلمات !
ما المراد ب (( القَوْل)) ؟
في بداية الخلقة خاطب الله تعالى الشيطان قائلاً له : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) ( سورة ص : آية 85 ),
قول الله هذا أضحى من المسلمات فيما يتعلق بأكثرهم ( أي أكثر أهل مكة ) إذ إنهم سيكونون من أهل جهنم .
هذه الآية هي من أخبار القرآن الغيبية التي تفيد أن هؤلاء المشركين لن يؤمنوا حتى آخر عمرهم ، لن يؤمنوا بمحمد (ص).
(( فهم لا يؤمنون )) لماذا ؟
هذا ما سيضح في الآيات التالية.
الأغـلال فـي الأعنـاق والسـد من الأمـام ومـن الخلـف
( إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ )
إن الذي طوَّق عنقه بالغل حتى الذقن ، لا يرى شيئاً إذ يكون رأسه مشدوداً إلى أعلى ، فلا يشاهد ما يجري على الأرض.
(وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ) .
ونحن لم نكتفِ بهذا أيضاً بل جعلنا أمامهم حاجباً وسداً ، وخلفهم كذلك حاجباً وسداً ، وألقينا على أعينهم غشاوة فهم لا يبصرون .
سؤال: هـل الآيـات تتعلـق بيـوم القيامـة أم هـي مثـال يضـرب ؟
(( لقد بالغنا في تحذيرهم فلم يرعووا ، فجزيناهم هذا الجزاء ))
هذا هو ظاهر الآيتين الشريفتين, غير أنه ينبغي تحري الدقة الزائدة ، فقد ذكر العديد من المفسرين وجوهاً ثلاثة في تفسيرهما.
أحدهما :
1) أن هاتين الآيتين (جعلنا في أعناقهم – وجعلنا من بين أيديهم ) تتعلقان بالآخرة ، وأن هذا ما يحدث يوم القيامة .
2) الوجه الآخر هو أنهما على سبيل المثال ، فقد ضرب تعالى مثالاً ، فشبههم بحالة من وضعت الأغلال في عنقه حتى ذقته ، ورأسه مرفوعة في الهواء فهو لا يدرك شيئاً ، وهذا إنما خطر في رؤوسهم ولم يجر في الخارج .
3) أما الوجه الثالث ، وهو الأفضل ، فهو أنهما تقرران حقيقتين من الحقائق الفعلية ، فالآن ، وفي هذا الوقت ، وبهذا الجسد الفعلي ، لو ظهر لأحدهم ملكوته لتبين أن هناك أغلالاً قد لفت حول نفسه وهو لا يدرك ذلك ، وأن أمامه حجاباً يمنعان عنه الإبصار .
الشهـوات والآمـال تعمـي وتصـم
(( عندنا غل حديدي للأعناق المكتنزة ، لا تعود بعده ترى ما تحت قدمتك )) .
هذا هو الظاهر ، إلا أن هذه الآية الشريفة تعود إلى حقيقتك وروحك اللتان ترشقان في هذه الأغلال ...
الأغلال التي رفعت رأس إدراكك نحو الأعلى فلم تعد ترى بعدها أي مكان ....
الأغلال التي في عالم المعنى تقمح رأس قلبك وروحك بهذا النحو الذي يشد الرأس في الهواء,
ونقولها صريحة: أن هذه الأغلال إنما هي الآمال والأماني : حب الشهوات ، وحب الدنيا ، والمال ، والرئاسة ، والطمع ، فهي أينما وجدت تعمي وتصم.
كل من أعمت الآمال والأماني والحرص والطمع بصيرته وأصمت سمعه لا يعود بمقدوره أن يرى ما أمامه ، في حين أنه ليس أمامه سوى منزل قبره ، إنه يرى كل شيء ما عدا قبره .
" من بين أيديهم " فلو رجع كل واحد إلى ذاته وأنصف لرأيه بأن أيضاً فيه نسبه من هذه الحالة ، فهو يفكر في كل شيء ما عدا الموت ، ويحذر من كل شيء إلا من الموت على غير الإيمان .
صحيح أن الله ينسب الفعل إلى نفسه ويقول : ((جعلنا)) ، لكنه يقول كذلك (( نُوَلِّه ما تولى )) فأنت بالذات من أراد ، والله تعالى بدوره يعطيك ما أردت ، وأنت بالذات من أبرم الصفقة ، فبعث آخرتك بدنياك.
و لفـرعون يجـري المـاء أيضـاً
هناك رواية في ( حياة القلوب ) للمجلسي حول فرعون :
قالوا له : منذ زمن وأنت تدعي الألوهية ، وها قد جف نهر النيل ، وأنت الذي تقول : أنا الله ، أجره إذاً . قال : "حسناً ... سأجريه" .
خرج بجيشه من المدينة ، ولما بلغوا الصحراء ، قال للجنود : لتظلوا في أماكنكم ريثما أذهب وأجري لكم الماء ، ثم ابتعد عنهم حتى بلغ مكاناً غاب فيه عن أنظارهم بشكل كامل ، ولما اطمأن إلى أن أحداً لا يراه ، ترجل عن الحصان وألقى بتاجه على الأرض ثم ارتمى فوق الرمال وقال : يا إله العالمين أنا أعرف أنني أقول الكذب ، وأنا لا أريد الآخرة ، بل أطلب سلطان الدنيا ، فلا تفضحني ، إلهي ، أعرف أن الأمور بيدك تصرفها كيف تشاء ، وحاجتي إليك هي أن يجري هذا الماء ، وجرى الماء في النيل !!
ليس في ذلك من عجب ، فالله عز وجل يهب أيا كان ما أراد ، وها هو فرعون يقول بلسانه : أنه لا يريد الآخرة بل يريد الدنيا ، ومثله مثل الشيطان الذي لم يطلب الآخرة ، بل سأل البقاء في الدنيا إلى يوم القيامة ، فكان له ما سأل .
لا يحـرم أحـد فـي محضـره سبحـانه
بالمناسبة ، لا يقولن أحدٌ : إن جريان الماء يتسبب في إضلال الناس ، لا ، فالأمر ليس كذلك.
فكل من كان "ذا شعور" يُدرك أن ما جرى لم يكن من عمل البشر ، إنه الله العطوف الرحيم ! وهو لن يحرم حتى عدوه ، وإن أحداً لا يحرم في محضره سبحانه ، قولوا فقط : يا الله !
هذا فرعون يرتمي عند أعتابك ذليلاً ، وهو الشقي الذي ادّعى الألوهية ، فلم تحرمه ، ونحن اليوم ضيوفك ، القائمون بين يديك ، فماذا يجري لو فككت الأغلال التي تحيط بقلوبنا ؟
(( وقعدت بي أغلالي )) فلم تدعني أفكر في آخرتي فالشهوات والأماني لا تدعني ، إلا أن يشملني لطفك.
كيف الفقير إلى حنانك يحرم وينال عطفك ذو الشقاوة مجرم ؟!