أرض النوبة وأهمية فتحها للمسلمين
أرض النوبة هي الامتداد الجنوبي الطبيعي لأرض مصر، وهي تقع في مساحة جغرافية تمتد من جنوب مصر الي شمال السودان، وقد لا يمكن التحديد الإقليمي الدقيق لها، ولكنها قد تتراوح في أعلي اتساعها ما بين جنوب الأقصر وجنوب أبو حمد في شمال السودان علي تفاوت في الدرجة الإثنية والكثافة السكانية للنوبة ما بين منطقة وأخري، ولكن ما ذكرت قد تكون الحدود الطبيعية المعروفة تاريخيا وهي منطقة ذات حضارة عريقة، بل قيل إنها بدأت الحضارة والزراعة قبل مصر الفرعونية.

تفكير المسلمين في فتح النوبة
عندما دخل المسلمون مصر اهتم الفاتحون بتأمين حدود مصر الجنوبية، وأكثر من ذلك نشر الإسلام في تلك المنطقة جنوب مصر وفي قلب أرض النوبة، وقد يكون تأمين حدود مصر الجنوبية، هدفا واضحا لدي الفاتحين، ولكن كما نعلم فإن تبليغ الدعوة الإسلامية كان هدفا استراتيجيا لدي المسلمين يحملونها لكل مكان يستطيعون الوصول إليه طاعة لله ورسوله والتزاما بأمر الله ورسوله في نشر البلاغ لدعوة الإسلام، خاصة في فترة قرون الخيرية الثلاثة، وعلي الأخص في القرن الأول، قرن الصحابة، حين كانت الحمية لنشر الدين في أعلي درجاتها.

حملة عقبة بن نافع
كان المسلمون يطلقون علي النوبة لفظ "الأساود"، إذ أن كل المصادر والمراجع القديمة تصفهم بهذا الاسم، وقد اصطدم المسلمون بالنوبة في أول سنوات الفتح لمصر حيث أرسل إليهم عمرو بن العاص جيشا بقيادة عقبة بن نافع الفهري سنة 21هـ، ولكن الجيش رجع دون تحقيق شيء، إذ قابله أهل النوبة ببأس شديد، ورجع كثير من المسلمين بأعين مفقوءة، فقد كان النوبة رماة مهرة بالسهام، يصيبون بها إصابات دقيقة حتي في العيون، ولذلك سماهم المسلمون "رماة الحدق" .
فعن الواقدي قال: حدثنا ابراهيم بن جعفر عن عمر بن الحارث عن أبى قبيل حيى بن هاني المعافرى، عن شيخ من حمير قال: "شهدت النوبة مرتين في ولاية عمر بن الخطاب، فلم أر قومًا أحد في حرب منهم. لقد رأيت أحدهم يقول للمسلم: أين تحب أن أضع سهمي منك؟ فربما عبث الفتى منا فقال: في مكان كذا، فلا يخطئه، كانوا يكثرون الرمى بالنبل فما يكاد يرى من نبلهم في الأرض شيء. فخرجوا إلينا ذات يوم فصافونا ونحن نريد أن نجعلها حملة واحدة بالسيوف، فما قدرنا على معالجتهم. رمونا حتى ذهبت الأعين فعدت مئة وخمسون عينًا مفقوءة. فقلنا: ما لهؤلاء خير من الصلح، إن سلبهم لقليل وإن نكابتهم لشديدة" (فتوح البلدان، ص234).

غير أنه لا مهارة النوبيين ( الأساود)، ولا شدة بأسهم، ولا فقر أرضهم وجدبها، كانت لتمنع المسلمين من تحقيق هدفهم في نشر دين الله تعالى، فهي رسالة ولا بد من تبليغها مهما كانت الصعاب، ولعل محاولة المسلمين المستميتة لضم أرض النوبة تنفي نفيا قاطعا الأسباب المادية للفتوحات الإسلامية، لأن النوبة لم يكن بها شيء يقيم حتي أود أهلها الذين يسكنوها، فكيف يطمع فيها غاز ليتقوي بها؟!

فتح النوبة في عهد عبد الله بن سعد بن أبي السرح
ومع هذا فإن عمرو بن العاص لم يصالح أهل النوبة، وقد توالت محاولات المسلمين لدخول النوبة، لكنها استعصت على الفتح نحو عشر سنين. ثم كانت ولاية عبد الله بن سعد بن أبى سرح لمصر فى عهد الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان سنة 25هـ، فنقض النوبيون الصلح وهاجموا صعيد مصر, فما كان من ابن أبى سرح إلا أن خرج في جيش تعداده عشرين ألف مقاتل وسار إلى دنقلة عاصمة النوبيين وحاصرها وضربها بالمنجنيق، وفي الحقيقة فإن عبد الله بن سعد بن أبي السرح استطاع أن يدوخ مملكة المقرة المسيحية دون أن يقضي علي سلطانها تماما.

معاهدة البقط
وفي النهاية بعد حصار طويل استسلم أهل النوبة وسألوا عبد الله بن سعد الصلح والموادعة، فأجابهم إلى هدنة اتُفِقَ عليها عرفت باسم معاهدة البقط، وكان هذا الصلح فى رمضان سنة 31هـ.
وهي أشبه بمعاهدة اقتصادية بين مصر وبلاد النوبة: مصر تمدهم بالحبوب والعدس، والنوبة ترسل الرقيق لمصر. فهي في واقع الأمر عبارة عن هدنة أمان أو معاهدة عدم اعتداء وضعت بلاد النوبة في وضع فريد أو مرحلة وسطي بين دار الإسلام ودار الحرب. وقد شكلت هذه الإتفاقية طبيعة العلاقات بين مصر وبلاد النوبة طيلة ست قرون. وهي لا شك إنجاز يضاف لإنجازات عبد الله بن سعد بن أبي السرح وإسهامه في نشر وتأصيل الإسلام في إفريقيا.

وبمعاهدة البقط دخل الإسلام النوبة، فلم يمض إلا زمن قليل ليسلم أهل النوبة كلهم، وكان صلح عبد الله بن سعد بن أبى سرح مع أهلها فتحا حقيقيا، أنهى كل قتال سبقه بين النوبة وبين المسلمين.

بنود معاهدة القبط
"بسم الله الرحمن الرحيم:

1) عهد من الأمير عبد الله بن سعد بن أبي سرح لعظيم النوبة ولجميع أهل مملكته:
2) عهد عقده على الكبير والصغير من أهل النوبة، من حدّ أرض أسوان إلى حد أرض علوة.
3) إن عبد الله بن سعد جعل لهم أمانا وهدنة، جارية بينهم وبين المسلمين ممن جاورهم من أهل صعيد مصر، وغيرهم من المسلمين وأهل الذمّة.
4) إنكم معاشر النوبة، آمنون بأمان الله وأمان رسوله محمد النبي صلى الله عليه وسلم، أن لا نحاربكم، ولا ننصب لكم حربا، ولا نغزوكم، ما أقمتم على الشرائط التي بيننا وبينكم.
5) على أن تدخلوا بلدنا مجتازين غير مقيمين فيه، وندخل بلدكم مجتازين غير مقيمين فيه.
6) وعليكم حفظ من نزل بلدكم، أو يطرقه من مسلم أو معاهد حتى يخرج عنكم.
7) وإن عليكم رد كل آبق خرج إليكم من عبيد المسلمين، حتى تردّوه إلى أرض الإسلام، ولا تستولوا عليه، ولا تمنعوا منه، ولا تتعرّضوا لمسلم قصده وحاوره، إلى أن ينصرف عنه.
8) وعليكم حفظ المسجد الذي ابتناه المسلمون بفناء مدينتكم، ولا تمنعوا منه مصلّيا. وعليكم كنسه وإسراجه وتكرمته.
9) وعليكم في كل سنة ثلاثمائة وستون رأسا تدفعونها إلى إمام المسلمين، من أوسط رقيق بلادكم، غير المعيب، يكون فيها ذكران وأناث، ليس فيها شيخ هرم ولا عجوز ولا طفل لم يبلغ الحلم، تدفعون ذلك إلى والي أسوان.
10) وليس على المسلمين دفع عدوّ عرض لكم، ولا منعه من حد أرض علوة إلى أرض أسوان.
11) فإن أنتم آويتم عبدا لمسلم، أو قتلتم مسلما أو معاهدا، أو تعرضتم للمسجد الذي ابتناه المسلمون بفناء مدينتكم بهدم، أو منعتم شيئا من الثلاثمائة رأس والستين رأسا، فقد برئت منكم هذه الهدنة والأمان ونحن وأنتم على سواء، حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.
12) علينا بذلك عهد الله وميثاقه وذمّته، وذمّة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. ولنا عليكم بذلك أعظم ما تدينون به من ذمّة المسيح، وذمّة الحواريين، وذمّة من تعظّمونه من أهل دينكم وملّتكم. والله الشاهد بيننا وبينكم على ذلك.
13) كتبه عمرو بن شرحبيل في رمضان سنة إحدى وثلاثين".

تعقيب على نصوص معاهدة القبط
والأصل أن الهدنة مؤقتة وأنها قابلة للتجديد، لكن التاريخ لا يحدثنا بشىء عن تجديد العهد مع أهل النوبة، إذ إن الزمن لم يَطُلْ بهم حتى دخلوا فى الإسلام جميعا. والثابت أن المسلمين صالحوا أهل النوبة على غير جزية، وإنما على هدايا يتبادلها الفريقان، بقيم متساوية، فى كل عام.

وهذه المعاهدة دليل على مرونة الأحكام الإسلامية فى التعامل مع غير المسلمين، وأنه ليس هناك شكل واحد لا يتغير للمعاهدات معهم، وإنما تتغير شروطها بحسب تغير الظروف والأحوال. ووجود المسجد فى بلاد النوبة، قبل الصلح بين المسلمين وبين أهلها دليل على أن المسلمين لم توقفهم العداوة، أو حال الحرب، عن العبور من أرض النوبة إلى ما وراءها من بلاد السودان، وأنهم آمنوا الغدر والخيانة من أهل النوبة الذين لاتزال جمهرتهم تشتهر بحسن الخلق والأمانة والوفاء، وكأن ذلك من ميراث الأجداد والآباء.

وإن هذا لعهد إن أمعنَّا النظر فيه وتأملناه جيدا نرى في بنوده معالم للسياسة الشرعية في الإسلامية ومعالم واضحة للعلاقات الخارجية للدولة الإسلامية.

فنرى أن رد النوبيين المسلم المحارب للمسلمين وإخراجه من ديارهم يعد أمرا هاما جدا, فهو يمنع من تكتل وتجمع الخارجين عن النظام الشرعي للدولة الإسلامية وعلى ولاة الأمر الذين يحكمون بما أنزل الله، وبالتالي لا تكون هذه الجهة مركزا للاعتداء على الدولة الإسلامية من بعض الأفراد الخارجين على ولاة الأمر، وبالتالي حماية الدولة الإسلامية والتأكيد على وحدتها.

ونرى أن حفظهم للمسجد الذي بناه المسلمون في فناء المدينة هو الأثر الأهم والنتيجة الأعظم لهذا الصلح الطيب، فوجود المسجد وعدم التعرض للمسلمين في المدينة يعنى انتشار الإسلام بين الناس, ولأن المسجد في الإسلام مكانته عظيمة وهو منطلق الدعوة ومركزها وكان أول شيء يقوم به المسلمون في أي مكان يحلونه هو بناء المسجد اقتداء بنبيهم صلى الله عليه وسلم الذي بنى مسجدا بالمدينة بمجرد وصوله إليها, ومع اشتراط حفظهم لمن يدخل بلادهم من المسلمين فهذا يعني انتشار الإسلام بسهولة ويسر, حيث أن تجار المسلمين والمسافرين الذي لا يتوقفون عن الحركة على مدار العام سيعملون على دعوة الناس إلى الإسلام، في حين أن هؤلاء الدعاة من التجار وغيرهم يكونون في مأمن طالما كانوا في أرض النوبة فلا يتعرض لهم أحد.

وهنا شبهة يرددها الصليبيون الحاقدون على الإسلام وأهله, يجب أن نفندها ونبين كذبهم وافتراءهم فيها, فهم يدعون أن هذه الاتفاقية كانت تجبر أهل النوبة -وهم نصارى على حد زعمهم- على بيع أولادهم للمسلمين كي يتقوا شرهم, فيحاولون إيهام الناس أن ذلك العدد من الرقيق الذي يجب على النوبيين إرساله للمسلمين سنويا، كانوا أبناء النصارى، وهذا كذب وافتراء فالاتفاقية تنص على تسليم ثلاثمائة وستين رأسا من أوسط رقيقهم, ولا تنص على ثلاثمائة وستين رأسا من أوسط فتيانهم أو شبابهم, والمعنى واضح والفرق شاسع بين اللفظين, فشتان شتان بين الرقيق والفتى أو الشاب.

لقد كان لهذا الصلح أثر عظيم في انتشار الإسلام في بلاد السودان وجنوبها, لقد استغل المسلمون الأوائل هذه المعاهدة في نشر الإسلام في تلك البلاد, وكان المسجد الذي بناه المسلمون في فناء دنقلة مركزا لنشر الإسلام في بلاد النوبة وجنوبها, وإن هذا الصلح ليؤكد كذب الذين يدعون بأن انتشر بحد السيف؟!، فليخبرونا إذاً كيف أسلم أهل النوبة والسودان وتلك البلاد النائية في أفريقيا التي لم تصلها جيوش المسلمين في أي عصر من العصور؟!

إن هذا الصلح ليؤكد براعة وذكاء وفهم المسلمون الأوائل للواقع الذي يعيشونه وكيفية التعامل مع هذا الواقع بشكل يخدم مصالح الأمة الإسلامية ويعمل على نشر الدين الإسلامي ولا يتعارض مع أحكام شريعة رب السماء جل في علاه، ولا سنة نبيه المصطفى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم, وإن هذه هي السياسة التي يجب أن نتعامل بها ويجب أن نتعلمها, فلن يعود للإسلام عزه ومجده ولن تعود للأمة كلها القيادة والريادة في هذا العالم إلا باتباع هدى المصطفى صلى الله عليه وسلم, والنظر في أفعال سلفنا الصالح الصحابة والتابعين.

وإنا إذا نظرنا بالتفسير الإسلامي لاتفاقية البقط لوجدناها تصب في صالح نشر الدعوة، ومن ثم فهي رصيد وإسهام مبارك لهذا الصحابي الجليل عبد الله بن سعد بن أبي سرح في نشر الإسلام في إفريقيا.

المراجع:
- محمد حميد الله الحيدر آبادي الهندي: مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، الناشر: دار النفائس – بيروت، الطبعة: السادسة، 1407هـ.
- محمد سليم العوا: دخول الإسلام النوبة، مقال على موقع جريدة الشروق.
- الناصر عبد الله أبوكروق: إفريقيا بين عبدالله بن أبي السرح وعقبة بن نافع الفهري، بحث على موقع منارات إفريقية.
- مجدي داوود: معركة النوبة فتح من الفتوحات الرمضانية، موقع صيد الفوائد.
قصة الاسلام