من مذكرات طفل
همساتُ صوتِها جاءتني مثل الحُلم يتردَّد صداه ما بين اليقظة والمنام، ولكني أتقلَّب يَمنة ويَسرة، محاولًا تجاهُلَ هذا الصوت، حتى بات هذا الصوت واضحًا كالمؤذن حين ينادي للصلاة، ففتحت عيني بهلعٍ أنظر متفحصًا، فإذا بعيني تقع على وجه أمي قائلة: (يا ولد، قُمْ صلِّ)، فنهضتُ بخفَّة إلى الحمام، منتعلًا نعلَيْ أبي الكبيرتين، فلطالما حلمت أن تكون رِجلاي الصغيرتان مثل رجلَي أبي، حلم كل طفل أن يكبَر سريعًا.
وبينما أقحم رِجلي في نعلي أبي، صرخَت أمي مرة أخرى: (يا ولد، امشِ، صلِّ ماذا تنتظر؟)، حينها ركضت وكدت أنزلق، فأمسكت باب الحمام بخفة، ثم أسمع خلفي هَمْهَمة أبي، فوقعت عيناه المرعبتان على عيني الصغيرتين، فقال لي بصوته الغليظ - الذي يشبه صوت القائد في الجيش -: (أَنْهِ سريعًا يا ولد)، فازددتُ رعبًا على رعب، فدخلت وقضيت نصف حاجتي، ونسيت أذكار دخول الخلاء، ونظرت إلى النافذة منتظرًا الشيطان ينظر إلى عَوْرتي؛ كما قال أستاذنا في المدرسة!
فقمتُ مسرعًا وضربات قلبي كيأجوج ومأجوج حين يدقون السُّور الذي نصبه ذو القرنين بيننا وبين إفسادهم، فانطلقت كالريح التي دائمًا أحلم بمسابقتها، وبينما أنا في طريقي إذ بصوت نباح كلب جيرانِنا الشرس، ظانًّا أنني لص، فإذا هو يجري خلفي، في تلك اللحظة شعرتُ بقلبي وقد بلغ حلقي، فركضت بكل ما أوتيت من قوة، فدخلت المسجد وأنا فَزِع، وأتخيل ذلك الكلب ما زال ينتظرني عند باب المسجد، جالسًا في عز وانتصار، كأنه تمثال أبي الهول في مصر.
كل ذلك وأنا أقف محاذيًا الصف والإمام يقرأ من القرآن، وأنفاسي تخرج من صدري متقطعة، لم أفهم شيئًا من الصلاة إلا عندما قال الإمام: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، فأتفحَّص وجوه المصلين بعد السلام، فإذا هي نفس الوجوه.
وإذا بي أشعر فجأة بيدٍ ثقيلة تمسح رأسي بحنان، فإذا هو أحد جيرانِنا المصلين، يقول لي: (أين أبوك يا ولد؟)، فقلت: لا أدري، ربما هو ورائي، فنظر إليَّ مبتسمًا ابتسامة رقيقة أزالت عني كلَّ ما وجدتُه من خوف.