تُعدُّ قلعة قايتباي التي يزيد عمرها اليوم على 500 عام ونصف، من أهمِّ القلاع والحصون الدفاعية على ساحل البحر المتوسط، ومن أبرز رموز مدينة الإسكندرية التاريخية والحضارية، ومن أهم العمائر في مصر والعالم الإسلامي من الناحية الأثرية والسياحية والثقافية.
القلاع الحربية
وتُعدُّ القلاع من أهم المنشآت والحصون العسكرية والدفاعية التي ظهرت في العصور الإسلامية وانتشرت في الكثير من المدن العربية والإسلامية، وكانت هذه القلاع تُبنى على تلال وجبال مرتفعة، وتطل على المدينة لتُحقِّق لها هدف الدفاع والتحصين ضدَّ المعتدين، وقد اهتمَّ بها الحكام والسلاطين، وتسابقوا في تشييدها وعمارتها حتى غدت من المعالم الأثرية البارزة للحضارة الإسلامية، التي لا تزال قائمة حتى اليوم في بعض المدن الإسلامية؛ لتشهد على ما وصلت إليه العمارة الحربية خلال العصور السابقة من تقدُّم وشموخ وازدهار.
وكان اختيار مكان القلعة يتم بشكلٍ دقيق؛ بحيث تحتل أعلى موقع في المدينة، ويكون باستطاعة حُماتها من الجنود صدَّ الغارات المحتملة، والدفاع عن المدينة ضدَّ أيِّ اعتداء خارجي، كما كانت هذه القلاع تُستخدم كمقرٍّ للحكم، حيث يسكنها الحكام من الملوك والسلاطين والأمراء، ومعهم عائلاتهم وجنودهم.
ومصر من الدول التي تضمُّ مجموعةً من القلاع الحربية أشهرها قلعة الجبل في القاهرة، التي أنشأها السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي بين عامي (572هـ=1176م - 579هـ=1183م) في بداية العصر الأيوبي، وهو العصر الذي ازدهرت فيه العمارة الحربية من قلاعٍ وأسوار.
تاريخ قلعة قايتباي
وقلعة قايتباي هي درة العمارة المملوكية في الإسكندرية، ومن أهمِّ الآثار الباقية حتى اليوم، وأهم قلاع مصر البحرية على البحر الأبيض، وتقع على الطرف الشمالي للميناء، وتُعدُّ من المعالم البارزة للمدينة.
وقد أُقيمت على أساس منارة الإسكندرية القديمة، عند الطرف الشرقي لجزيرة فاروس بأقصى غرب الإسكندرية (في أواخر دولة المماليك). ومنارة الإسكندرية بُنيت في عهد البطالمة سنة (279 ق.م) بارتفاع 120 مترًا، وهي عبارة عن بناء مستقل طوله 60 مترًا، وعرْضه 50 مترًا، وسُمْك أسواره أربع أمتار ونصف، وكان هذا المنار قد تهدَّم إثر زلزالٍ عام (702هـ=1302م)، أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون الذي أمر بترميمه، إلَّا أنَّه تهدَّمت جميع أجزائه سنة (777هـ=1375م)، ووصفه الرحَّالة العرب وبينهم ابن بطوطة وعبد اللطيف البغدادي، واعتبر إحدى عجائب الدنيا السبع القديمة.
وقد أنشأ هذه القلعة السلطان الملك الأشرف أبو النصر قايتباي المحمودي سنة (882هـ=1477م) عندما زار مدينة الإسكندرية؛ حيث توجَّه إلى موقع المنار القديم، وأمر أن يُبنى على أساسه القديم برجٌ عُرف فيما بعد باسم قلعة أو طابية قايتباي، وانتُهي من البناء بعد عامين من تاريخ الإنشاء؛ أي سنة (884هـ=1479م).
التخطيط المعماري لقلعة قايتباي
تأخذ قلعة قايتباي شكل المربع، تبلغ مساحته 150م ×130م (أي على مساحة تُساوي حوالي 19500 مترًا مربعًا، ما يُعادل أربعة أفدنة)، ويُحيط به البحر من ثلاث جهات، وتحتوي هذه القلعة على الأسوار والبرج الرئيس.
برج القلعة الرئيس
والبرج الرئيس لقلعة قايتباي يقع بالناحية الشمالية الغربية من مساحة القلعة، وهو عبارة عن بناءٍ ضخمٍ يتكوَّن من ثلاثة طوابق، ويزيد ارتفاعه على سبعة عشر مترًا، وهو مربَّع الشكل طول ضلعه 30 مترًا، ومشيَّد بالحجر الجيري ذي القطع الكبيرة، وأُقيمت في أركانه الأربعة أبراج مستديرة ترتفع عن سطح البرج الكبير نفسه، ويبلغ قطر كلٍّ من هذه الأبراج الأربعة ستَّة أمتار.
ويتوسَّط المدخل الضلع الجنوبي من البرج الرئيسي، وهو عبارة عن فتحة يبلغ اتَّساعها ثلاثة أمتار ترتفع إلى نهاية الطابق الأول من البرج، وتتوسطها فتحة باب مستطيلة الشكل بها ثلاث قطع من حجر الجرانيت الأحمر، وعلى جانبي الباب توجد مسطبتان من الحجر وترتفع كل منهما 80 سم عن أرضية المدخل، ويتَّخذ البرج الرئيس في الفناء الداخلي شكل قلعةٍ كبيرةٍ مربَّعة الشكل، طول ضلعها 30مترًا وارتفاعها 17مترًا، كما توجد في أركان البرج الأربعة أبراج نصف دائرية تنتهي من أعلى بشرفات بارزة تضمُّ فتحات لرمي السهام على مستويين.
ويتوصل إلى داخل البرج من خلال المدخل الرئيس له ويقع بالضلع الجنوبي؛ حيث يُؤدِّي هذا المدخل إلى داخل البرج، الذي يتكوَّن تخطيطه من ثلاثة طوابق يختلف كلٌّ منها عن الآخر في التخطيط والارتفاع:
1- الطابق الأرضي: يشتمل على مسجد يشغل أكثر من نصف المساحة، وقد بُني على نظام المدارس المملوكية؛ من صحنٍ مربعٍ مكشوف في الوسط يُحيط به من جهاته الأربعة أربعةُ إيواناتٍ صغيرة، وأرضية الصحن مغطَّاة بالرخام الملون، كما يضمُّ ممرَّات دفاعية تسمح للجنود بالمرور بسهولة خلال عمليات الدفاع عن القلعة، وكان لهذا المسجد مئذنة ولكنَّها انهارت مؤخَّرًا.
ويشتمل كذلك هذا الطابق على قسمين آخرين أحدهما في الشرق، ويتكون من ردهة على شكل ممرٍ طويلٍ موازٍ للجدار الخارجي، وبعض حجرات صغيرة بالضلع الجنوبي، أمَّا القسم الثاني وهو الجانب الغربي على يسار الداخل، فيتكوَّن من ردهةٍ تُوازي الجدار الغربي، وحجرة في الضلع الجنوبي.
2- الطابق الأول العلوي: ويتمُّ الوصول إليه عن طريق سلم من الحجر مرتفع الدرجات، ويتكوَّن من قسمين: القسم الأول يشتمل على ممرَّات جانبية، أمَّا القسم الثاني فهو عبارة عن مجموعة من القاعات الكبيرة والحجرات الصغيرة.
3- الطابق الثاني العلوي: ويتمُّ الوصول إليه عن طريق سلم حجري أيضًا، وهو يتكوَّن من حجرة كبيرة (مقعد السلطان قايتباي)، يجلس فيه لرؤية السفن على مسيرة يوم من الإسكندرية، يُغطِّيه قبوٌ متقاطع، كما يوجد في هذا الطابق فرنٌ لإعداد الخبز "البر" المصنوع من القمح، وكذلك طاحونة لطحن الغلال للجنود المقيمين في القلعة، كما يضمُّ مجموعة الممرات الجانبية والعديد من الحجرات والمخازن، وأسقف وحدات هذا الطابق قد بُنيت كلُّها بالطوب الأحمر على شكل قوس.
أسوار قلعة قايتباي
بُنيت على مساحة قلعة قايتباي أسوار القلعة الخارجية واستحكاماتها الحربية، وهي عبارة عن مجموعة من الأسوار بُنيت من الجهات الأربع للقلعة من الأحجار الضخمة لزيادة تحصين القلعة، وهذه الأسوار عبارة عن سورين كبيرين من الأحجار الضخمة التي تُحيط بالقلعة من الخارج والداخل أُعدَّت لحماية القلعة.
فالسور الأول هو السور الخارجي ويُحيط بالقلعة من الجهات الأربع: الضلع الشرقي من هذا السور يطل على البحر، ويبلغ عرضه مترين وارتفاعه ثمانية أمتار ولا يتخلَّله أيٌّ من الأبراج، أمَّا الضلع الغربي فهو سورٌ ضخمٌ أكثر سمكًا من بقيَّة الأسوار، يتخلَّله من الخارج ثلاثة أبراج مستديرة، والضلع الجنوبي يطلُّ على الميناء الشرقي، ويتخلَّله ثلاثة أبراج مستديرة بارزة ويتوسَّط هذا الضلع بابٌ على شكل فتحةٍ مستطيلة، أمَّا واجهته الداخلية فهي على شكل نصف دائري، وبالنسبة إلى الضلع الشمالي من هذه الأسوار، فيطل على البحر مباشرةً، وينقسم إلى قسمين: الجزء السفلي منه عبارة عن ممرٍّ كبيرٍ مسقوف، بُني فوق الصخر مباشرةً به عدَّة حجرات، أمَّا الجزء العلوي فهو عبارةٌ عن ممرٍّ به فتحات ضيِّقة تطلُّ على البحر.
وأمَّا الأسوار الداخلية لقلعة قايتباي فهي مبنيَّةٌ من الحجر في البرج الرئيس من ثلاث جهات فقط، الشرق والغرب والجنوب ما عدا الجهة الشمالية، ويفصلها عن الأسوار الخارجية مسافة تتراوح بين خمسة وعشرة أمتار، ويتخلَّل هذا السور من الداخل مجموعة من الحجرات المتجاورة يبلغ عددها 34 حجرةً أُعدَّت كثكنات للجنود، خالية من النوافذ فيما عدا فتحة الباب التي تُقابلها فتحة للتهوية، وفتحات المزاغل التي خُصِّصت لتكون فتحات للتهوية من ناحية وكفتحات للدفاع من ناحيةٍ أخرى.
وقد وصف ابن إياس القلعة فقال: "بني على أساس المنار القديم الذي كان في الإسكندرية، وأنشأ بهذا البرج مقعدًا يطلُّ على البحر، ينظر منه من مسيرة يومٍ إلى مراكب الفرنج وهي داخلة إلى المينة، وجعل بهذا البرج جامعًا بخطبة وطاحونًا وفرنًا، وحواصل، وأشحنهم بالسلاح، وجعل حول هذا البرج مكاحل معمرة بالمدافع ليلًا ونهارًا؛ بسبب ألَّا تطرق الفرنج للثغر على حين غفلة، وجعل به جماعة من المجاهدين قاطنين به دائمًا، وأجرى عليهم الرواتب في كلِّ شهر".
واكتسبت هذه القلعة أهميَّةً كبرى من تشييدها على المنار القديم؛ حيث أصبحت امتدادًا لمنار الإسكندرية، ولذلك عُرفت في أيام الحملة الفرنسية باسم "قلعة المنارة" أو "المنارة الصغيرة".
الاهتمام بقلعة قايتباي عبر العصور
ولأنَّ قلعة قايتباي تعدُّ من أهم القلاع على ساحل البحر الأبيض المتوسط فقد اهتمَّ بها سلاطين وحكام مصر على مرِّ العصور التاريخية؛ ففي العصر المملوكي نجد السلطان قنصوه الغوري اهتمَّ بهذه القلعة اهتمامًا كبيرًا، وزاد من قوَّة حاميتها وشحنها بالسلاح والعتاد، ولمـَّا فتح العثمانيون مصر استخدموا هذه القلعة مكانًا لحاميتهم، واهتمُّوا بالمحافظة عليها، وجعلوا بها طوائف من الجند المشاة والفرسان والمدفعية ومختلف الحاميات للدفاع عنها، ومِنْ ثَمَّ الدفاع عن بوابة مصر بالساحل الشمالي.
ولمـَّا ضعفت الدولة العثمانية بدأت القلعة تفقد أهميَّتها الاستراتيجية والدفاعية نتيجةً لضعف حاميتها، ومِنْ ثَمَّ استطاعت الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون بونابرت الاستيلاء عليها وعلى مدينة الإسكندرية سنة (1213هـ=1798م)، الأمر الذي أدَّى إلى الاستيلاء عليها، ومنها استولوا على باقي مصر.
ولمـَّا تولَّى محمد علي باشا الحكم عمل على تحصين مصر خاصَّةً سواحلها الشمالية؛ فقام بتجديد أسوار القلعة وإضافة بعض الأعمال بها لتتناسب والتطوُّر الدفاعي للقرن التاسع عشر الميلادي، تمثَّلت فى تقوية أسوارها، وتجديد مبانيها، وتزويدها بالمدافع الساحلية، هذا بالإضافة إلى بناء العديد من الطوابي والحصون التي انتشرت بطول الساحل الشمالي لمصر.
وعندما قامت ثورة أحمد عرابي سنة (1300هـ=1882م)، التي كان من نتائجها ضرب الإنجليز مدينة الإسكندرية فى يوم 11 يوليو سنة 1882م، ومِنْ ثَمَّ الاحتلال الإنجليزي لمصر، تمَّ تخريب قلعة قايتباي وإحداث تصدُّعات بها، وقد ظلَّت القلعة على هذه الحالة حتى قامت لجنة حفظ الآثار العربية سنة (1322هـ=1904م) بعمل العديد من الإصلاحات بها، والقيام بمشروعٍ لعمل التجديدات بها استنادًا إلى الدراسات التي قام بها علماء الحملة الفرنسية والمنشورة فى كتاب وصف مصر، و-أيضًا- التي قام بها الرحالة كاسيوس في كتابه سنة (1214هـ=1799م).
وقد جاء مشروع الترميم الأخير بعد ما يقرب من مائة عام؛ لكي تستعيد هذه القلعة عافيتها ومجدها التاريخي، وتظلُّ مَعْلمًا حضاريًّا ومزارًا سياحيًّا وأثرًا معماريًّا عريقًا يُبرز المعمار الإسلامي في أبهى صوره.
_____________________
مراجع البحث:
- قلعة قايتباي: موقع الآثار المصرية.
- أحمد أبو زيد: قلعة قايتباي في الإسكندرية معلم حضاري علـى ساحل المتوسـط، مجلة الرافد الثقافية، الشارقة - الإمارات.
د.راغب السرجاني .. قصة الاسلام