يعتبر تخطيط وإنشاء المدن الإسلامية من الأعمال العمرانية المهمة التي قام بها عمرو، لقد كان الهدف من إنشاء هذه المدن من أجل جند المسلمين وعائلاتهم في المناطق المفتوحة؛ ليكون الجند فيها مستعدين دائمًا للجهاد في سبيل الله، وللدفاع عن حدود الدولة الجديدة، ونقطة انطلاق عسكري لأي توسع إسلامي. وكان المسلمون قبل إنشاء المدن يقيمون بمساكن من القصب، فكانوا إذا غزوا نزعوا ذلك القصب وحزموه ووضعوه حتى يرجعوا من الغزو، وإذا رجعوا أعادوا بناءه، فلم تزل الحال كذلك حتى كانت أوامر أمير المؤمنين ببناء المدن.
وإذا ما بحثنا في تاريخ العرب المسلمين نرى أنهم حين خرجوا من شبه الجزيرة العربية فاتحين ورجال دعوة للدين الإسلامي، وبناة حضارة جديدة، كانوا قد تعودوا على الاستقرار في المدن كمكة والمدينة، ناهيك عن إقامتهم في المدن التي كانت قائمة في جنوبي الجزيرة العربية منذ الألف الثاني قبل الميلاد، وحضارات عرب سوريا قبل الإسلام كالأنباط والتدمريين والغساسنة واللخميين.
لذلك يمكننا القول: إن العرب المسلمين حينما خرجوا فاتحين كانوا مهيئين لهذه النقلة التاريخية من طور البداوة إلى طور الحضارة، وهذا ما جسده بناء البصرة والكوفة، ثم الفسطاط في عهد الخليفة عمر بن الخطاب.
وفي ذلك نقول: إن الدعوة الإسلامية أحدثت ثورة دينية، وسياسية، واقتصادية؛ فقد تجاوز الإسلام بالعرب الحدود القبلية، ثم وحدهم بحروب الردة في نطاق أمة واحدة، ودفعهم إلى الجهاد فأخرجهم من مواطنهم إلى آفاق جغرافية جديدة، ولم يعد المتتبع لسير حركة الفتوح يرى فيهم جماعات متعددة، وإنما يرى جماعة واحدة، تملأ عقيدتها ما كان بينها من فراغ.
وقد أُنشِئَتِ البصرة سنة 15هـ، والكوفة سنة 17هـ، والفسطاط سنة 21هـ.
إنشاء الفسطاط
جامع عمرو بن العاص بمدينة الفسطاطتقع الفسطاط في إقليم مصر على ساحل النيل في طرفه الشمالي الشرقي، قبل القاهرة بحوالي ميلين، وكان النيل عندها ينقسم إلى قسمين، وموضعها كان فضاءً ومزارعَ بين النيل والجبل الشرقي، ليس فيه من البناء والعمارة سوى حصن بابليون الذي يطل على النيل من بابه الغربي الذي يعرف بباب الحديد، واستفادت الفسطاط من موقعها على النيل بنتيجتين:
فقد يسر النيل للأهالي سبل الحصول على الماء من جهة، وخدم توسعها العمراني من جهة ثانية، فتحكمت بطرق المواصلات التجارية الداخلية والخارجية بين مصر والشام، وبين مصر والحجاز.
وقد اكتشف هذا الموقع الإستراتيجي الفراعنة والبابليون والرومان، فاتخذ منه الفراعنة مكانًا لمدينة كبيرة، جعلها البابليون مكانًا لاستقرارهم عند نزولهم في مصر، ثم اتخذه الرومان مقرًّا لدفاعهم يصلون به الوجهين البحري والقبلي، ويدفعون منه كل معتدٍ خارجي على مصر.
والفسطاط من حيث المناخ، تتبع المناخ شبه الصحراوي، فهي حارة نهارًا وباردة ليلاً، لا ينزلها المطر إلا نادرًا، كما هو الحال في باقي إقليم مصر ما عدا الإسكندرية.
وبعد الصلح سار المسلمون إلى الإسكندرية وعاونهم القبط في أعمالهم، ورحبوا بهم. وعند حصن الإسكندرية اقتتلوا قتالاً شديدًا، ثم تمَّ لهم فتحها بعد حصار دام بضعة أشهر، وقبل أهل مصر الصلح.
وعليه نشير إلى أن عمرو بن العاص حينما عزم على التوجه إلى الإسكندرية، أمر بنزع فسطاطه الذي ضربه قرب حصن بابليون، فإذا فيه يمام قد فرخ فأقره كما هو.
وحينما فتح المسلمون الإسكندرية أراد عمرو بن العاص اتخاذها عاصمة ودار هجرة للمسلمين، فكتب إلى عمر بن الخطاب يستأذنه في ذلك، فسأل عمر رسول عمرو بن العاص: "هل يحول بيني وبين المسلمين الماء؟" فأجابه: نعم.
فكتب عمر إلى ابن العاص أن يرحل عن هذا المكان؛ لأنه لا يريد أن يحول بينه وبين المسلمين الماء، لا في الصيف ولا في الشتاء.
فتحول عمرو بن العاص إلى موضع فسطاطه القديم، وذلك حينما استشار أصحابه أين ينزلون، فأشاروا عليه بالنزول في هذا الموضع، وكان مضروبًا في موضح الدار التي تعرف بدار الحصى عند دار عمرو الصغرى، ثم انضمت إليه القبائل وتنافست في المواضع، واختط عمرو المسجد الجامع الذي عرف بتاج الجوامع، وكان حوله حدائق وأعناب، وقام عمرو بنصب الحبال مع أصحابه حتى استقامت، وقد اشترك في وضع قبلة المسجد من ثمانين صحابيًّا، واتخذوا فيه منبرًا، ثم اختط الناس بعد اختطاط المسجد الجامع، ونزل المسلمون الفسطاط بعد تمصيره سنة 21هـ.
هذا، وقد أنزل عمرو بن العاص القبائل العربية بالفسطاط، وبعد أن اختط المسجد الجامع، بنى للخليفة عمر دارًا عند المسجد، فكتب إليه عمر قائلاً: "أنَّى لرجل بالحجاز تكون له دار بمصر؟!" وأمره أن يجعلها سوقًا للمسلمين، وتمَّ ما أراده أمير المؤمنين، وأصبحت هذه الدار تسمى بدار البركة.
وسَرْعان ما اتخذت الفسطاط مظهر المدينة بجامعها الكبير، وبأسواقها التجارية التي أحاطت به، وبدور السكن التي ارتفعت بمرور الزمن إلى خمسة وسبعة أطباق، وعظم أمرها واغتنت، وكثر ساكنوها حتى قاربت ثلث بغداد مساحة، أي حوالي فرسخ على غاية الخصب والعمارة والحضارة، وبقيت دار الإمارة حتى سقطت الدولة الأموية، وبنيت المعسكرات بظاهرها.
وقد وُفِّقَ عمرو بن العاص في اختيار الموقع الإستراتيجي لبناء الفسطاط سياسيًّا وجغرافيًّا؛ فالموقع الذي ضرب عليه عمرو فسطاطه كان موضعًا لمدينة قديمة اندثرت ثم ازدهرت ثانية مع دخول الإسلام لمصر، وإنما بنمط معماري جديد وبحياة وحضارة جديدتين، حتى أصبحت الفسطاط -مع هذا كله- مدينة جديدة زاهرة بكل ما يجعل شأن العواصم كبيرًا.
وكان ذلك إيذانًا بدخول وادي النيل في الإسلام لتسطع من الفسطاط فيما بعد أنوار الحضارة العربية الإسلامية وأنوار الدين الإسلامي، ولتصبح فيما بعد قاعدة الفتوح الإسلامية في المغرب.
وعن سبب التسمية نشير إلى أن عمرو بن العاص كما يذكر الطبري، وبعد فتح حصن بابليون أراد رفع الفسطاط والمسير إلى الإسكندرية لإتمام فتح مصر، فإذا يمام قد فرخ في أعلاه فتركه على حاله، وأوصى به صاحب الحصن والقصر.
فلما فتح الإسكندرية وأراد الاستقرار بها نهاه عمر بن الخطاب عن ذلك، وأوصاه باختيار موضع وسط يتيسر الاتصال به، فلم يجد عمرو أنسب من اختيار الموقع الملاصق لحصن بابليون لحصانته وموقعه، وسأل أصحابه: أين تنزلون؟
قالوا: نرجع إلى موقع فسطاطه؛ لنكون على ماء وصحراء. فعاد إليها ومَصَّرَها وأقطعها للقبائل التي معه، فنسبت المدينة إلى فسطاطه، فقيل: فسطاط عمرو. فالفسطاط على هذا النحو معسكر أو مخيم أو بيت من الشَّعر.
ويذكر ابن قتيبة في كتابه عيون الأخبار أن العرب يقولون لكل مدينة: الفسطاط، ولذا سموا مصر بالفسطاط، ويستشهد على ذلك بحديث للرسول r رواه أبو هريرة، قال فيه: "عليكم بالجماعة؛ فإن يد الله على الفسطاط" أي المدينة.
تخطيط الفسطاط
وعن تخطيط المدينة العمراني نشير إلى أن أول بناء اختطه عمرو بن العاص في الفسطاط كان مسجده الجامع، وكان مسجدًا كبيرًا شريف القدر شهير الذكر، ثم بنى عمرو داره الكبرى عند باب المسجد، وكان يفصلها عن الجامع طريق، ثم اختط دارًا أخرى ملاصقة لها، وبنى حمام الفار (الذي سمي كذلك لصغر حجمه، قياسًا بحمامات الروم الضخمة)، واختطت قريش والأنصار وأسلم وغفار وجهينة، ومن كان قد اشترك في جيش المسلمين حول المسجد الجامع ودار عمرو.
هذا، وكانت هذه الخطط في الفسطاط بمثابة الحارات في القاهرة، واختط خارجة بن حذافة غربي المسجد، وبنى أول غرفة بمصر، والغرفة هي قاعة تعلو الدار وتطل على الطريق، وهي التي أمره عمر بن الخطاب بهدمها؛ لكي لا يطلع على عورات جيرانه.
أما الدار البيضاء التي استغرق بناؤها أربعين يومًا فاختطها عبد الرحمن بن عُدَيْس البلوي، وبُنِيَتْ لمروان بن الحكم حين قدم إلى مصر، وكانت صحنًا وموقفًا لخيل المسلمين بين المسجد ودار عمرو.
وبنى عمرو بن العاص لبني سهم دار السلسلة الواقعة غربي المسجد، واختطت ثقيف في الركن الشرقي للمسجد الجامع، واختط أبو ذر الغفاري دار العمد ذات الحمام، واختطت همذان الجيزة، وحينما أخبر عَمرو عُمر بن الخطاب بذلك ساءه، وكتب إلى عمرو يقول:
كيف رضيت أن تفرق عنك أصحابك؟! لم يكن ينبغي لك أن ترضى لأحد من أصحابك أن يكون بينك وبينهم بحر، لا تدري ما يفاجئهم، فلعلك لا تقدر على غياثهم حتى ينزل بهم ما تكره، فاجمعهم إليك، فإن أبوا عليك وأعجبهم موضعهم فابنِ عليهم من فَيْء المسلمين حصنًا.
وحينما لم يرجعوا ومن والاهم من رهطهم كيافع وغيرها، بنى لهم عمرو الحصن سنة 22هـ.
وكان يتوسط خطط الجيزة أرض فناء فسيحة، فلما قدمت الإمدادات زمن عثمان بن عفان، وفيما بعد ذلك، كثر الناس في هذه الأرض، وكثر بنيانها حتى التأمت خطط الجيزة، وأصبحت امتدادًا للفسطاط وأرضًا منها.
وكثرت بالفسطاط الحارات والأزقة والدروب، التي تعتبر مظهرًا من مظاهر التوسع العمراني والازدهار الاقتصادي؛ يقول في ذلك جمال الدين الشيال اعتمادًا على حفريات الفسطاط لبهجت وعكوش: إنه كان يفصل بين منازل الفسطاط أنواع من الطرقات المختلفة الاتساع والامتداد، فأكبرها لا يزيد عرضه عن ستة أمتار، وأضيقها لا يتجاوز مترًا ونصف المتر، وكان يطلق عليها بنسبة عرضها أو اتساعها أو طولها أو اتصالها اسم حارة أو درب أو زقاق، وكانت تسمى بأسماء القبائل التي نزلت بها، أو باسم كبار العرب الذين سكنوها، أو بأسماء الحرف والصناعات، أو أنواع التجارة.
المساجد:
جامع عمرو
جامع عمرو بن العاص أول جامع بمصرهو أول جامع أقيم في مصر، ويعرف بالجامع العتيق، وكان موضعه جبانة، وعندما نزل المسلمون في مكانه حاز موضعه قيسبة بن كلثوم التجيبي ونزله، وحينما رجع المسلمون من الإسكندرية إلى هذا المكان، سأل عمرو قيسبة في منزله هذا أن يجعله مسجدًا، فتصدق به على المسلمين، فبُنِيَ في سنة 21هـ، وقد وقف على تحرير قبلته جمع كبير من جِلَّة الصحابة رضوان الله عليهم، قال المقريزي: إنهم ثمانون رجلاً من أصحاب رسول الله r، منهم: الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وأبو ذر الغفاري، وغيرهم رضي الله عنهم، وكان طوله خمسين ذراعًا في عرض ثلاثين، ثم توالت الزيادات، إلى أن كانت سنة 212هـ، إذ أمر عبد الله بن طاهر والي مصر من قبل المأمون بتوسيعه، فزيد فيه مثله، وبذلك بلغت 5012 * 50120 مترًا.
وكانت تقام فيه حلقات الدروس، بعضها للإرشاد، والآخر لدروس الفقه والحديث وعلوم القرآن والأدب، فكان جامعة إسلامية ذاع ذكرها في الآفاق، وصار يقصدها الطلاب من الأقطار المختلفة.
ويروي ابن إسحاق أن عَمرًا بنى بعد فتح الإسكندرية مسجدًا، كان لا يزال باقيًا إلى عصره.
قصة الاسلام