الإسكندرية قبل الفتح الإسلامي
كانت الإسكندرية عاصمة لمصر منذ أنشأها الإسكندر الأكبر في شتاء عام 331- 332 ق.م عند بلدة راكوتيس Rakotis التي يرجع تاريخها إلى 1500 ق.م، كما أضاف ضاحية نيوبوليس New Polis إلى غربها، وقد أقامها لتحل محل نوكراتيس naukratis كمركز للثقافة اليونانية في مصر، وفي العصر الروماني صارت المدينة الثانية بعد روما، وبقيت تحت سلطان الرومان أكثر من قرن من الزمان، ثم نما حجم الإسكندرية وأنشأ البطالمة فيها المتحف والمكتبة التي حوت 500.000 مجلدٍ، وفيها تمَّ ترجمة التوراة (العهد القديم Old testament) إلى اليونانية، وصارت الإسكندرية مركزًا للتجارة بين دول أوروبا والشرق، واستمر ذلك الحال حتى دُمِّرَ المتحف والمكتبة خلال الحرب الداخلية في القرن الثالث الميلادي، كما أحرق المسيحيون مكتبة فرعية عام 391م، وأنشأ أوكتافيوس مدينته المنافسة قريبًا من الرمل، وأخذت أهمية خاصة في عصرها المسيحي من ناحية الفكر اللاهوتي للحكومة، وفي عام 616 م استولى عليها الفرس من البيزنطيين، واستعادها البيزنطيون حتى فتحها المسلمون عام 21هـ/ 642م.

الزحف إلى الإسكندرية.. ومعاونة الأقباط للمسلمين!
بعد سقوط حصن بابليون في أيدي المسلمين أقاموا به، ثم كتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يستأمره في الزحف إلى الإسكندرية، فكتب إليه عمر يأمره بذلك. وقد استخلف عمرو بن العاص على ما فتح خارجةَ بن حذافة السهمي، وسار على رأس من معه.

ثم حدث بعد ذلك أمران مهمان، وهما:
- جاء إلى الروم إمدادات كثيرة.

- أصبح للقبط موقفٌ واضح، ألا وهو تعاونهم مع المسلمين.

خرج عمرو بن العاص y بالمسلمين حين أمكنهم الخروج، وخرج معه جماعة من رؤساء القبط، وقد أصلحوا لهم الطرق وأقاموا لهم الجسور والأسواق، وصار القبط لهم أعوانًا على ما أرادوا من قتال الروم، وسمع بذلك الروم فاستعدوا واستجاشوا، وقدم عليهم مراكبَ كثيرة من أرض الروم فيها جموع كثيرة منهم بالعدة والسلاح، فخرج إليهم عمرو بن العاص y من بابليون متوجهًا إلى الإسكندرية، فلم يلقَ منهم أحدًا حتى بلغ تَرْنُوط، فلقي بها طائفة من الروم فقاتلوه قتالاً خفيفًا فهزمهم الله، ومضى عمرو بن العاص بمن معه حتى لَقِيَ جمع الروم بكَوْم شَرِيك، فاقتتلوا به ثلاثة أيام ثم فتح الله للمسلمين، وولَّى الروم مدبرين.

وتجمع الروم والقبط دون الإسكندرية ببلدة كِرْيُون، وفيهم من أهل سَخا وبَلْهِيب والخَيْس وسُلْطَيْس وغيرهم، وهذا يخالف الروايات الصحيحة التي ذكرت أن القبط كانوا أعوانًا للمسلمين مثل رواية ابن عبد الحكم في كتابه "فتوح مصر وأخبارها"؛ ولذلك نذهب إلى أن أهل هذه القرى قام الروم بتجنيدهم وحشرهم ليقاتلوا معهم، وأثخن المسلمون الرومَ، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وطاردوهم حتى بلغوا الإسكندرية فتحصنوا بها. وكانت عليهم حصون لا تُرَامُ؛ حصن دون حصن، فنزل المسلمون ما بين حُلْوَة إلى قصر فارس إلى ما وراء ذلك، ومعهم رؤساء القبط يمدونهم بما احتاجوا إليه من الأطعمة والعَلُوفة.

وقد ذكرنا من قبل أن فتح بابليون كان يوم الجمعة 29 من ذي الحجة 20هـ / 7 ديسمبر641م؛ وتقول الروايات: إن عمرو بن العاص y ظل أمام الإسكندرية مُحاصِرًا لها ثلاثة أشهر. وتعني هذه الروايات أن المسلمين قطعوا ما بين بابليون حتى الإسكندرية في ستة أشهر، ثم أقاموا أمامها ثلاثة أشهر، وعلى ذلك يكون وصول المسلمين إلى الإسكندرية كان نحو 19جمادى الآخرة21هـ / 23 مايو 642م، ويكون فتحها حدث نحو 19رمضان21هـ / 19أغسطس642م، وقد ذكر خليفة بن خياط في تاريخه أن فتحها كان سنة 21هـ على يد عمرو بن العاص y.

إحكام الحصار على حصن كِرْيُون
فر الرومان نحو الإسكندرية، وكان حصن كريون آخر سلسلة الحصون قبل الإسكندرية، وقد اعتصم به "تيودور" قائد الجيش البيزنطي مع حامية قوية، وبعد أن تمكن المسلمون من اقتحامه فَرَّ "تيودور" وبعض أفراد حاميته إلى الإسكندرية.

وقد أدرك عمرو y فور وصوله إلى الإسكندرية ودراسته للوضع الميداني أن المدينة حصينة؛ إذ يحيط بها سوران محكمان، ولها عدة أبراج، ويحيط بها خندق يُمْلأُ من ماء البحر عند الضرورة للدفاع، وتتألف أبوابها من ثلاث طبقات من الحديد، ويوجد مجانيق فوق الأبراج، وقد بلغ عدد جنود حاميتها بعد الإمدادات التي أرسلها الإمبراطور البيزنطي خمسين ألف جندي، ويحميها البحر من الناحية الشمالية، وهو تحت سيطرة الأسطول البيزنطي، الذي كان يمدها بالمؤن والرجال والعتاد، وتحميها قريوط من الجنوب، ومن المتعذر اجتيازها، وتلفها ترعة الثعبان من الغرب، وبذلك لم يكن للمسلمين طريق إليها إلا من ناحية الشرق، وهو الطريق الذي يصلها بكريون، وكانت المدينة حصينة من هذه الناحية، ومع ذلك لم ييأس، ووضع خطة عسكرية ضمنت له النصر في النهاية، قضت بتشديد الحصار على المدينة حتى يتضايق المدافعون عنها، ويدب اليأس في نفوسهم، فيضطرون للخروج للاصطدام بالمسلمين لتخفيف وطأة الحصار، وهكذا يستدرجهم ويحملهم على الخروج من تحصيناتهم، ثم ينقض عليهم.

ونتيجة لاشتداد الصراع في القسطنطينية بين أركان الحكم، انقطعت الإمدادات البيزنطية عن الإسكندرية، إذ لم يعد أحد منهم يفكر في الدفاع عنها، مما أَثَّرَ سلبًا على معنويات المدافعين عنها، فرأوا أنفسهم معزولين ولا سند لهم، ومما زاد من مخاوفهم ما كان يقوم به المسلمون من غارات على قرى الدلتا والساحل، فإذا سيطروا عليها فسوف يقطعون الميرة عنهم.

رسالة أمير المؤمنين إلى عمرو
رسالة أمير المؤمنين عمر لعمرو بن العاصوكان عمر بن الخطاب y في المدينة ينتظر أنباء فتح مصر، وهو أشد ما يكون استعجالاً لنبأ سقوط الإسكندرية في أيدي المسلمين، ولكن هذا النبأ أبطأ عنه أشهرًا، فذهب يبحث عن السبب، وهو لم يقصر عن إمداد عمرو بما يحتاج إليه من المساندة التي تكفل له النصر، وخشي أن تكون خيرات مصر قد غَرَّت المسلمين فتخاذلوا؛ فقال لأصحابه: "ما أبطَئُوا بفتحها إلا لما أحدثوا"، أي لما أحدثوا من ذنوب، وكتب إلى عمرو بن العاص:

"أما بعد، فقد عجبتُ لإبطائكم عن فتح مصر، إنكم تقاتلونهم منذ سنتين، وما ذاك إلا لما أحدثتم، وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم، وإن الله تبارك وتعالى لا ينصر قومًا إلا بصدق نياتهم، وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر، وأعلمتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل على ما كنت أعرف، إلا أن يكونوا غيَّرَهم ما غيَّر غيرهم، فإذا أتاك كتابي هذا فاخطب الناس، وحُضَّهم على قتال عدوهم، وَرَغِّبْهم في الصبر والنية، وقَدِّم أولئك الأربعة في صدور الناس، ومُر الناس جميعًا أن يكون لهم صدمة كصدمة رجل واحد، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة، فإنها ساعة تنزل الرحمة، ووقت الإجابة، وليعجّ الناسُ إلى الله ويسألوه النصر على عدوهم".

تحقيق النصر.. ونجاح الفتح
وعندما أتى عَمرًا الكتابُ جمع الناس، وقرأ عليهم كتاب عمر، ثم دعا أولئك النفر، فقدمهم أمام الناس، وأمر الناس أن يتطهروا ويصلوا ركعتين، ثم يرغبوا إلى الله عز وجل ويسألوه النصر؛ ففعلوا ففتح الله عليهم.

ويقال: إن عمرو بن العاص استشار مَسْلَمَة بن مُخَلَّد في قتال الروم بالإسكندرية، فقال له مسلمة: أرى أن تنظر إلى رجل له معرفة وتجارب من أصحاب رسول الله r، فتعقد له على الناس، فيكون هو الذي يباشر القتال ويكفيك. قال عمرو: ومن ذلك؟ قال: عبادة بن الصامت.

فدعا عمرو عبادةَ فأتاه وهو راكب فرسه، فلما دنا منه أراد النزول، فقال له عمرو: عزمت عليك لا تنزل؛ فَنَاوِلْنِي سِنَانَ رُمحِك. فناوله إياه، فنزع عمرو عمامته عن رأسه وعقد له، وولاه قتال الروم، فتقدم عبادة مكانه، فقاتل الروم حتى فتح الله على يديه الإسكندرية من يومهم ذلك.

يقول جنادة بن أبي أمية: دعاني عبادة بن الصامت يوم الإسكندرية، وكان على قتالهم، فأغار العدو على طائفة من الناس ولم يأذن لهم بقتالهم، فسمعني فبعثني أحجز بينهم، فأتيتهم فحجزت بينهم، ثم رجعت إليه، فقال: أَقُتِلَ أَحَدٌ من الناس هنالك؟ قلت: لا. فقال: الحمد لله الذي لم يقتلْ أحدًا منهم عاصيًا.

لقد عانت الإسكندرية من الحصار، وأَدَّى ذلك إلى هبوط معنويات الجند والقادة، خاصة بعد وفاة هرقل، فأسرع المقوقس بالسفر إلى مصر على رأس جنده لتسليم المدينة، ورافقه عدد من القساوسة، وبذلك فتح الله الإسكندرية على المسلمين.

صورة رائعة من حضارة المسلمين في التعامل مع الأعداء
تمَّ هذا الفتح عَنْوة، ولكن عمرًا جعل أهلها ذمة على أن يخرج مَن يخرج، ويقيم من يقيم باختيارهم، شأن المسلمين مع أهالي معظم البلاد التي فتحوها، وإنما عامل عمرو المصريين معاملة من فُتِحَتْ بلادُهم صلحًا ليستجلب محبتهم، وتتألف الهدنة التي عقدها المقوقس مع عمرو بن العاص من أمرين:

الأمر الأول: شروط تسليم مدينة الإسكندرية، ومنها:
- أن يدفع أهل الإسكندرية الجزية المستحقة عليهم دينارين كل عام.

- أن يحافظ المسلمون على الكنيسة المسيحية، فلا يتعرضون لها بسوء، ولا يتدخلون في شئونها.

- أن يتمتع أهل الإسكندرية بالحريات الدينية.

- أن تعقد هدنة مدتها 11 شهرًا، يبقى المسلمون في أثنائها عند مواقعهم الأولى.

- أن يكف الروم عن القتال، وألا يحاولوا استرداد مصر، ولا تعود إليها قوة حربية.

- أن ينسحب البيزنطيون، ويأخذون معهم أموالهم وأمتعتهم عن طريق البحر. وإذا تمَّ الانسحاب دخلت قوات المسلمين واحتلت المدينة.

- أن يكون عند المسلمين من الروم 150 جنديًّا، و50 مدنيًّا رهينة؛ لتنفيذ المحافظة على الجالية اليهودية، وكان عددها عظيمًا.

- أن يرحل جند الروم من الإسكندرية في البحر على أن يحملوا متاعهم وأموالهم، ومن أراد الرحيل برًّا فليدفع كل شهر جزءًا معلومًا من المال، ما بقي في أرض مصر أثناء رحلته.

الأمر الثاني
أن المعاهدة القديمة التي عقدها المقوقس مع عمرو بن العاص y بحصن بابليون، ستطبق على القطر المصري كله، وتصبح معاهدة يدخل فيها جميع المصريين من حيث تأمين أهل مصر على أنفسهم ومِلَّتهم وأموالهم وكنائسهم وصُلُبِهم وبَرِّهم وبحرهم، بما يضمن منح المصريين حقوقهم وحرياتهم، وقد حمل "قيرس" شروط الصلح إلى "تيودور" وهو القائد الأعلى للجيش للموافقة عليها، وأُرسِلت إلى قنسطانز فأقرها، ولكن الروم بعد ذلك لم يحترموا هذه المعاهدة؛ فقد أرسل الإمبراطور جيشًا بقيادة "منويل"، فاحتلها وقتل حاميتها.

وبالفعل تمَّ تنفيذ الاتفاق، وأخلى الروم الإسكندرية، ورحلوا عنها قبل حلول الموعد المحدد لانتهاء الهدنة بين الطرفين، إذ تمَّ إخلاؤها بتاريخ السابع عشر من سبتمبر سنة 642م.

تأمين حدود مصر
لقد حرص عمرو بن العاص y على تأمين الإسكندرية من هجمات الأعداء المباغتة، فجعل نصف جنده معه بالفسطاط، وأمر النصف الآخر بالمرابطة بسواحل مصر، خاصة الإسكندرية، بحيث يتم ذلك بالتبادل صيفًا وشتاءً، مدة ستة أشهر لكل فريق مع توفير المساكن اللازمة للإقامة هناك.

وبعد أن فرغ المسلمون من فتح مصر، رأى عمرو بن العاص y ضرورة تأمين حدودها من جهة الغرب، وبخاصة أن الروم قد أُجبِرُوا على الخروج منها، وهم يتحينون الفرصة لاستعادتها. ولما كانوا يبسطون نفوذهم وسلطانهم على المناطق التي تقع غرب مصر حتى المحيط الأطلنطي، كان لا بد من تأمين تلك الحدود؛ لذلك كان من الضروري استمرار الفتح غربًا لارتباط تلك المناطق الوثيق بمصر؛ فقد كانت أنطابُلُس (برقة) وطرابلس قد انفصلتا عن الإمبراطورية البيزنطية منذ عهد موريس 583- 602م، وكانتا شبه مستقلتين وتابعتين لمصر رسميًّا، وأيدتا "جريجوريوس" لدى انفصاله عن الإمبراطورية البيزنطية.

قصة الاسلام