“
إذا خيروك بين أن تكون على صواب أو أن تكون لطيفًا، اختار اللُطف؛ ذلك لأنّ كل شخص حولك يخوض معركته الخاصة“
يكاد يكون هذا هو أهم درس ستتعلمه من فيلم Wonder، درس لا يهم كَم عمرك لتتفهمه وتُدرك أنّ الإنسانية تُحتِّم عليك القيام بتطبيقه بحياتك. حسنًا، هذا ليس هو الدرس الوحيد الذي يُقدمه العمل، فعلى مدار مدة عرض الفيلم ستتوالى المزيد من النصائح التي على بديهيتها ستتفاجأ كَم من البشر لا يُطبقونها بحياتهم.
نصائح مهمة فعلًا لكن بسبب كثرتها ومُباشرتها رأى بعض النقاد أنّ صُنّاع الفيلم كادوا يُلقموننا الدروس المستفادة بالملعقة، في حين رأى آخرون أنّ قصة الفيلم تسمح بتمرير تلك النصائح وأنّ أصحابها فعلوا ذلك بذكاء – سنذكر سببه فيما بعد – فخرجوا من فخ الكليشيهية المُعتادة.
على كلٍ نتفق مع أولئك النقاد أو هؤلاء، في كل الأحوال هذا لا ينفي كون الفيلم عائليًا بامتياز ويُنصح به لمن لديهم أطفال، خاصةً إذا كانوا في نفس المرحلة العمرية للأبطال، فالعمل يُناقش ما يتعرض الأطفال له من تنمُّر بالمدرسة، بجانب ارتباك المراهقة ومشاكلها، موضحًا كيف يُمكن اجتياز ذلك من خلال عمل إنساني وعاطفي يُسلط الضوء بحرفيه على أهمية “الجمال الداخلي”.
عن الفيلم
فيلم
Wonder.. فيلم أمريكي إنتاج 2017، مُقتبسًا عن رواية بنفس العنوان للكاتب آر. جيه. بالاسيو، العمل من إخراج ستيفن تشبوسكي، وبطولة كل من جوليا روبرتس، أوين ويلسون، جايكوب ترامبلي، ماندي باتينكين وإيزابيلا فيدوفيتش.
وقد لاقى الفيلم استحسان أغلبية النقاد والمواقع الفنية المختلفة، وبالرغم من أنّه لم يُطرح بسينمات الولايات المتحدة الأمريكيه إلّا في 17 نوفمبر الحالي، إلّا أنّه نجح خلال عطلته الأسبوعيه الأولى من تحقيق 28 مليون دولار من أصل ميزانية 20 مليون، وهي بداية موفقة بالطبع.
أمّا رد الفعل الأهم فكان ذلك الذي أحدثه العمل لدى العائلات التي يُعاني أحد أفرادها من مثل هذه التشوهات، حتى أنّ اليوتيوب امتلأ عن آخره بفيديوهات لأطفال ومراهقين لديهم نفس المشكلة حمسهم الفيلم على قَص تفاصيل تجربتهم على الملأ، كذلك فعلت بعض الأمهات اللاتي مَر أولادهن بنفس الظروف.
قصة فيلم Wonder
تدور أحداث الفيلم حول أسرة من أم وأب وطفلين،
الطفل الأصغر هو
“أوجست أو أوجي” في العاشرة من عمره، وُلد أوجي بتشوهات خلقيه حادة جدًا ما اضطره للخضوع – رغم صغر سنه – لسبع وعشرين عملية جراحيه كي يتمكن من التنفس، السمع، والرؤيه بشكل أقرب ما يكون إلى الطبيعي.
وبسبب حالة أوجي الصعبه وشكله المُختلف عن أقرانه يظل وحتى التاسعة من عمره يحظي بتعليم منزلي تُقدمه له والدته التي تُعلِّق حياتها بأكملها من أجله، لكنها لا تلبث أن تظن فور إتمامه العاشرة أنّ الآوان قد حلّ لدخوله المدرسة، خاصةً وأنّ هذه ستكون أول سنة بالمرحلة المتوسطة ما يَعني أنّه لن يكون الطفل الوحيد الجديد بالمكان.
تتكفَّل الأم بإقناع جميع أفراد الأسرة، ويدخل ابنها المدرسة بالفعل لكنه يظل لوقت طويل يعاني بسبب تنمُّر زملاءه منه ولا يجرؤ على المواجهه، قبل أن يتمكن في النهايه من تكوين أصدقاء وعلاقات حقيقيه، أمّا
الطفلة الأكبر فهي
“فيا” طالبة بالمرحلة الثانويه، تُعاني من بعض المشكلات الحياتية هي أيضًا، لكن لا أحد يهتم أو يستمع لها خاصةً وأنّها لا تشكو لعلمها جيدًا أنّ أفراد أسرتها في غنى عن المزيد من الدراما.
ستيفن تشبوسكي أنقذ الفيلم أم أغرقه؟
الفيلم إخراج وسيناريو وحوار “ستيفن تشبوسكي” مُخرج The Perks of a Being a Wallflower الذي كان معنيًا بالمراهقين أيضًا، ما جعل كونه مُخرجًا لفيلم Wonder أمرًا مُبشرًا ويدعو إلى التفاؤل، وقد جاء الإخراج جيدًا إلى حدٍ كبير خاصةً المشاهد الخارجيه التي اتسمت بالتصوير السينمائي الخلاب، وإن كان العمل كقصه كاد أن يغرق في الكليشيهية والتوقعات المتطابقه مع ما سينتج من العمل لولا تيمه واحده أنقذته.
إذ جاء سرد الفيلم بطريقة الفصول، كل فصل يتناول شخصية من الشخصيات فيحكي الأحداث من وجهة نظرها، مُبررًا تصرفاتها الحَسن منها وغير المقبول، وهو ما جعل الفيلم لا يدور بأكمله حول شخصية “أوجي” بمفردها – وإن ظل محورًا لمعظم الأحداث -، كذلك أثرى العمل بقصصٍ جانبيه أخرى بعضها جاء مُكتملًا بالفعل كقصة “فيــا”، وبعضها كان يُمكن أن يكون نواة لما هو أكبر كحكايتي (ميراندا وجاك) أصحاب الأبطال، في الوقت نفسه كان هناك بعض الشخصيات نود لو رأينا الأحداث بعيونها أيضًا كشخصية “جوليان” الطفل المُتَنَمِّر.
إيجابيات أخرى
تميز الفيلم باهتمام صانعه بالتفاصيل ظهر ذلك في عدة أشياء منها:
- فكرة الخوذة التي يتخفى البطل خلفها حين يُحاول الهروب من مواجهة العالم، وكيف يلجأ إليها في خياله عندما يرغب في تطبيق نصيحة والدته “إذا لم يروق لك المكان الذي أنت فيه، تخيل المكان الذي تريد التواجد به” فيبدأ في تخيُّل نفسه بالخوذه في مكان رحب وفسيح لا يوجد به أحد سواه، وقد كان من الذكاء في أول الفيلم أن يظهر لنا البطل مُرتديًا تلك الخوذة بينما يتحدث عن نفسه بلسان الراوي بعض الوقت قبل أن يخلعها فنراه، ما زاد من نسبة الإثارة والتشويق وجعلنا نتأهب لمشاهدة هذا الوجه الذي كان سببًا في معاناة صاحبه في الحياه.
- اختيار الهالوين بالتحديد كالمناسبة الاحتفالية الأهم في حياة البطل كان موفقًا أيضًا، كيف لا وهي المناسبه الوحيدة التي يُخفي فيها أوجي وجهه عن الجميع، فلا يعرفون من هو ومن ثَم يبدأون في التعامل معه دون نفور في الوقت الذي يتمكَّن هو فيه من العبور مرفوع الرأس، واثقًا من نفسه وشاعرًا بخفه لا مثيل لها.
- أمّا أحد أفضل المشاهد بالعمل فكان التصالح الذي جرى بين أوجي وجاك داخل لعبة تكنولوجيه مشتركة يقومون بلعبها معًا من على بُعد، ما أضفى بُعدًا حداثيًا على العمل.
التمثيل
واحدة من نقاط قوة الفيلم اختيار طاقم ممثليه، فكل فرد منهم بدا مُناسبًا للغايه في الدور الذي يلعبه، فهناك:
جوليا روبرتس التي عادت أخيرًا إلى الشاشه في دور قريب إلى القلب وإيزابيل جديده تُحب الرسم (مثل الشخصية التي لعبتها بنفس الاسم في فيلم Stepmom)، دور على بساطته مُفعمًا بالمشاعر والتعقيدات، فنشهد معها الأم التي تُضحي بكل شيء من أجل طفلها الذي يُعاني من ظروف خاصة، إذ تضعه في المرتبه الأولى وبعده يأتي أي شيء الزوج، الابنه الكبرى، الدراسات العليا وتحقيق الذات، وحتى حين يبدأ الابن في تكوين علاقات مع العالم الخارجي، فتُقرر العودة إلى نفسها نُشاهدها تفعل ذلك على استحياء يغمرها الحماس بالطبع لكن يشوبه شعور بالذنب وقلق من التقصير.
أوين ويلسون الذي لعب دور الأب، وإن كنا لم نعرف الكثير عنه وجاءت شخصيته هامشيه إلى حَدٍ كبير، إلّا أنّ هذا لم يمنع حقيقة كَون وجوده – على ندرته – مُعادلًا في معظم الوقت للأم التي تحمل على كاهلها مسؤولية وضع الأمور في نصابها كما يجب لها أن يكون. ليكون هو ذلك الأب الطيب الذي يُطلق القفشات والنكات فيرسم البسمه على وجه كل أفراد الأسره مُخففًا من وطأة الأمور، ومُلطفًا للأجواء الرمادية التي تُخيم على منزلهم، ويمنحنا نحن أيضًا كجمهور قُدرة على الضحك والتقاط الأنفاس بين شلالات الدموع التي نزرفها في مشاهد أخرى.
جايكوب تريمبلي (بطل فيلم Room) يعود إلى الشاشه من جديد بدور إنساني مؤثر ليحطم قلوبنا هنا أيضًا من خلال تأديته دور البطل، ذلك الطفل الذي يعاني من تشوهات خُلقيه لكنه يضطر للذهاب إلى المدرسه والاحتكاك بالأطفال الآخرين الذين يسخر مُعظمهم منه مُحولين حياته إلى جحيم، وعلى ذلك ينجح هو بشخصيته، خفة ظله، إنسانيته وكرم أخلاقه في استقطاب البعض تجاهه، تاركًا بصمته في حياتهم جميعًا بنهاية العام، وقد نجح جايكوب في تقديم الشخصية بشكل مُذهل، ورغم المكياج الذي أخفى معظم ملامح وجهه باستثناء عينيه إلّا أنّه أجاد التعبير بهما، في ظل نبرة صوته البريئة والطفوليه التي تُذيب القلوب.
إيزابيلا فيدوفيتش في دور الأخت الكبرى والمنسيه “فيا”، الفتاه التي لا ينتبه لتعاستها أحد، استطاعت إيزابيلا تقديم الدور بأداء السهل الممتنع، فجاء تمثيلها عفويًا لكن متماسكًا وعاطفيًا يلمس شغاف الروح لدرجة مُبكيه، حتى أنّ الكثير ممن سيشاهدون الفيلم رُبما يتعاطفون مع جانبها بالحكايه أكثر من تعاطفهم مع البطل الرئيسي الذي يملك كل ما يحتاج إليه من اهتمام بالفعل.
المُلفت للانتباه أنّ حتى اختيار الأدوار الثانويه كأصدقاء الأبطال أُحسن صنعه، فجاء معظم الأطفال والمراهقين الشاغلين لباق الأدوار مُناسبين لما قدموه تاركين بصمتهم فيه.
الموسيقى التصويريه
لعبت الموسيقى التصويرية دورًا حيويًا، فتميزت الموسيقى والأغنيات المختارة بالعذوبه والدفء رغم كون معظمها سريعة، إلّا أنّ ذلك لم يُقلل من ملائمتها للأحداث فجاءت مُكملةً لأركان العمل، ومن المُلفت أن حتى الروايه صدر معها موسيقاها التصويريه الخاصه.
“
أفعالنا هي معالمنا“
فنحن نتاج ما نفعل، ووحدها تصرفاتنا هي الأكثر صلاحيةً لتحديد موقف الآخرين منا، واتخاذهم لنا كأصدقاء أو حتى كأعداء، التعاطف صفه إنسانية، إهانة الآخر أو إطلاق الأحكام عليه لمجرد الاختلاف عنا خطأ مُجحف فحتى نحن نبدو “غير عاديين” بالنسبة لآخرين، وبالتالى على نظرتنا للآخر أن تكون أكثر عمقًا من مجرد نظرة سطحية عسانا نراه من الداخل فنعرفه حقًا.
كل هذه دروس سيكتسبها كل من يشاهد هذا العمل، ولكن يبقى سؤالان:
– هل فيلم Wonder يُقدم قصه شاهدناها من قبل؟
إلى حدٍ كبير نعم.
– هل يستحق هذا العمل اقتطاع ما يقرب من الساعتين لمشاهدته؟
جدًا.
- فإذا كنتم من مُحبي الأفلام التي تجمع بين الدراما والإنسانيه في إطار يجمع بين الحزن والإمتاع شاهدوا هذا الفيلم، وأعدكم أنكم ستضحكون وتبكون مرارًا وتكرارًا حَد البَستره!
- إذا كنتم آباء أو أمهات شاهدوا هذا الفيلم مع أطفالكم، ثم تحدثوا معهم عنه وأسقطوه على حياتهم وعلاقاتهم.
- إذا كنتم أطفالًا ومراهقين أكبر من سن 9 سنوات وتتعرضون للتنمُّر أو تشعرون بالوحدة، وأن ما مِن أحد يفهمكم أو يُقدركم شاهدوا هذا الفيلم لتتماسكوا وتعرفوا كيف يُمكنكم تجاوز ما تتعرضون له، وترك بصمتكم على من حولكم.
- وحتى إذا كنتم أنتم الآخر الذي يستخف بالضعيف فيُهينه ويُقلل منه مُتصرفًا معه بدناءة وانحطاط، شاهدوا هذا الفيلم لعلكم تُدركون أهمية أن تكونوا أسمى من ذلك وأكثر تعاطفًا وعفوًا.