الصفر المطلق ( البرودة المستحيلة )
إن ملامسة درجة حرارة ” الصفر المطلق ” كانت ولا زالت فكرة مُجردَة ، لم يستطع العلماء ولا مَعَاملهم من التوصّل إليها بشكل ٍ قطعي ، و إن كانوا قد اقتربوا منها بشدة في ظروف معملَية شديدة الحساسية . و برغم كل تلك الجهود ، تبقى القوانين الطبيعية الحاكمة سيدة الموقف ، متمثلةً بأنه حتى لو تم التوصل إلى تلك الدرجة الصفرية المطلقة ، فإنه لا يوجد ترمومتر يقيس هذا النوع من الحرارة الشديدة البرودة .
في هذا المقال نبحث عن ما هو ” الصفر المطلق ” ؟ وكيف كان أول ظهوره ؟ وإن كانت فكرة ” الصفر المطلق ” حقيقة يمكن التوصل لها أم أنها مجرد محض خيال يراود فكر العالِم ؟ وماهي الفائدة منها ؟
لكي نتعرف على مفهوم ” الصفر المطلق “، نعود قليلاً إلى مفهوم درجة حرارة المواد . تعتمد درجة حرارة أي جسم على مقدار سرعة حركة و اهتزاز جزيئاته ، و نحن عندما نقوم بقياس درجة حرارة شيء ما فإننا في الواقع نسجل متوسط السرعة التي تتذبذب أو تتحرك بها الجزيئات . و عندما نقوم بتبريد الجسيم و تخفيض حرارته فإن سرعة اهتزاز جزيئاته تتناقص، ومع تخفيض الحرارة أكثر فأكثر فإن سرعة حركة الجزيئات تنقص أقل فأقل، إلى أن نصل إلى نقطة تتوقف عندها حركتها و تصبح في سكون . إن درجة الحرارة هذه التي يتوقف عندها اهتزاز ذرات و جزيئات المادة هي ” الصفر المطلق “ وتساوي ( -273 C )
عُرفت فكرة ” الصفر المطلق ” في القرن الثامن عشر عندما لفتت عملية التبريد نظر الفيزيائيين ، فالعلاقة بين التبريد و الحجم علاقة عكسية ، فلو فرضنا أننا برّدنا غاز ما ( قللنا درجة حرارته ) فإنه سينكمش تبعاً للعلاقة في (الشكل التالي) و كلما زودنا البرودة سينقص حجم الغاز . ولو قمنا بمد خط الرسم البياني إلى المنطقة السالبة للحرارة فإنه و في مرحلة ما سيصل حجم الغاز إلى صفر عند درجة الحرارة -273 C ( انظر الشكل ) أي أن الغاز سيبتلع نفسه ( أي يتلاشى )..! ولو زدنا التبريد سيصبح حجم الغاز سالباً وهذا مُخالف للمنطق..!!
وكتفسيرٍ لهذه الظاهرة أدرك فيزيائيو القرن الثامن عشر” استحالة تحوّل حجم الغاز إلى السالب ” وقالوا أنه قبل أن يصل إلى هذه المرحلة سيعمل الغاز على تحويل نفسه إلى مادة سائلة أو ربما حتى صلبة، وبالتالي مثلت درجة الحرارة -273 C النقطة التي سيتلاشى عندها أي غاز أي ( الصفر المطلق / الحقيقي ) .
وفي القرن التاسع عشر و مع ظهور علوم ” الديناميكا الحرارية ” و ” الفيزياء الإحصائية ” أدرك الفيزيائيون أن مسألة ” الصفر المطلق ” لا ترتبط بالحجم وتلاشيه النظري عند هذه النقطة الصفرية و لكنها ترتبط بحركة جزيئات المادة ، التي تتوقف حركتها عندما تصل إلى درجة الحرارة -273 C ، مع الأخذ في الاعتبار أن الجسيمات الدون ذرية تواصل حركتها ( الإلكترونات ، النترونات و البروتونات ) .
و قد اقترح اللورد “كلفن ” تدرج جديد لدرجات الحرارة يبدأ من ” الصفر المطلق “. وهكذا بدلاً من اعتبار درجة تجمد الماء عند صفر درجة سلزيوس فإنها ستحدث عند 273 كالفن و درجة تجمده عند 373 كالفن ( انظر الشكل التالي )
لكن بقي التساؤل حتى يومنا هذا ما إذا كان من الممكن الوصول إلى هذه الدرجة ” الصفر المطلق “أمإنها من محض الخيال و الحلم ؟
في الواقع.. إن أدنى درجة طبيعية تم تسجيلها على سطح الأرض كانت في القارة القطبية الجنوبية وهي -89 C أو 184 K ، أما أدنى حرارة في المجموعة الشمسية فكانت على كوكب ” ترايتون ” أحد أقمار كوكب نيوتن وكانت تساوي 38K
وقد برهن العالمان ” أرنوبنز ياس “ و ” روبرت ويلسون ” أن في أعماق الكون أي في الفضاء الخارجي أشعة تحت الحمراء تصل حرارتها إلى 2.73 كالفن و قد قيست هذه الحرارة بدقة كبيرة بواسطة ” الساتل كوب ” الذي أُطلق عام 1989م
أما في المعامل.. فقد أقترب الفيزيائيون من ” الصفر المطلق ” بدرجة كبيرة ، حتى أنهم توصلوا لدرجات حرارة أبرد من تلك التي في الفضاء، و ذلك باستخدام الغازات السائلة المبردة كالهيليوم و ذرات السيزيوم .
لكن لسوء الحظ .. يبدو أنه ( حتى الآن ) لا يمكن الوصول إلى درجة ” الصفر المطلق ”تماما ً ، والقوانين الفيزيائية تدعم هذه اللاإمكانية ..!!
فأولاً .. و تبعاً للقانون الثالث للديناميكا الحرارية والذي ينص على أنه : ” لا يمكن الوصول إلى درجة حرارة ” الصفر المطلق ” لأن ذلك يستلزم بذل طاقة كبيرة جدا ً ” و يمكن تشبيه ذلك بنظام تبريد الثلاجة، فلكي تقوم الثلاجة بتبريد أكثر يلزمها طاقة كهربائية أكثر، وبالتالي فالوصول إلى درجة البرودة العظمى ” الصفر المطلق ” يستلزم طاقة عظمى لا يمكن بذلها حتى الآن.
ثانياً : تبعاً لمبدأ اللايقين ” لهايزنبرج ” وهو القائل باختصار: ” أنه من المستحيل أن نحدد سرعة أي جسيم ومكانه في نفس الوقت بصورة مؤكدة “. وعند الوصول الى درجة ” الصفر المطلق ” سيحدث تعارض مع هذا المبدأ. حيث عند درجة ” الصفر المطلق ” ستتوقف جزيئات المادة عن الحركة. وبهذا تكون سرعتها معلومة و محددة تمامًا وتساوي صفر . و مكانها أيضا من الممكن تحديده بدقة شاملة حيث أنها ثابتة في مكانها لا تتحرك. أي أننا حددنا كميتين بدقة في نفس الوقت، و هذا يتعارض مع مبدأ عدم الدقة.
ثالثاً : لأن الترمومتر الذي يقيس درجة حرارة ” الصفر المطلق “غير موجود وحتى لو وُجد فإنه سيضيف قدراً من الحرارة على الجسم البارد المراد قياسه وبالتالي تنتفي درجة ” الصفر المطلق “..!
رابعاً : من الصعوبة بمكان قياس درجة الحرارة قطعياً عند قيم منخفضة للطاقة ، حيث تتداخل تأثيرات أخرى مثل : ” التوصيل الفائق ” و ” ميكانيكا الكم ” و تؤثر على حركة و مستويات الذرات وبذلك لن نعرف مطلقاً وعلى وجه الدقة أننا وصلنا إلى القياس الصحيح لدرجة الحرارة ..!
لكن ماذا يستفيد العلماء من الوصول إلى درجات الحرارة المتدنية هذه ؟
إن الوصول بالمواد إلى درجات حرارة شديدة الانخفاض يحولها إلى مواد فائقة الناقلية، وهذا يعني أنها تفقد كل مقاومتها الكهربائية ، وبالتالي نحافظ على الطاقة من الضياع عند مرورها في الأسلاك الفائقة الناقلية، وذلك مفيد في تقليل كلفة الإنتاج و النقل في الطاقة الكهربائية ، بالإضافة لزيادة فعالية المولدات الكهربائية و خطوط النقل . أيضا سيكون للناقلية الفائقة دور مهم في تحسين مجالات تقنية المعلومات و الهندسة الطبية و مجالات النقل كقطار ماغليف الياباني الذي يستخدم مغانط فائقة الناقلية و الذي يجعله يبدو و كأنه يسير على وسائد .
وهذا غيض من فيض من تطبيقات تقنية الناقلية الفائقة والذي يرجع الفضل فيها إلى مفهوم ” الصفر المطلق ” .