قصة غير مقصودة
جواد البياتي
في طريقي الى النجف الاشرف لأداء جزء من الوفاء لمن فرقتنا عنهم حقيقة التاريخ المطلقة . كنت مع شخص اخر سبقني للصعود الى السيارة الوحيدان وسط مايقارب 12 امرأة جلهن من العجائز ، ولم يشكل ذلك عندي مشكلة رغم ميلي الشديد لوجود من فيها ( برقة ) شباب من اجل اختصار الطريق سيما وان هناك الكثير من نقاط السيطرة التي سيضيع عندها الكثير من الوقت . قلت في سري لابأس ايها المراهق انت متعب ولم تنم الليل الاّ قليلا . سيكون ذلك مناسبة لنوم عميق لاأستفيق منه الاّ في وادي السلام حيث يخيم الصمت على الموتي وبعض الشموع المحترقة وخيوط الدخان التي تتصاعد من اعواد البخور المشتعلة . حاولت ان اغفو عندما تحركت السيارة لكن منظر بغداد عند الفجر استفزني للصراع مع النوم ومن خلال زجاج النافذة راقبت قرص الشمس كيف ينهض كسولاً لينشر خيوطه الذهبية الخجولة على ارض اذن الله لها ان يرفع فيها اسمه ويودعها اثمن خيراته وثمراته ويسكنها احلى خلقه رفعة وكرما واخلاقا . وقبل ان اترك نفسي في ذمة احلامي فاجأتني العجوز التي تجلس في المقعد الذي امامي بكيس ملييء بالكليجة وكلفتني بتوزيعه على الركاب فتصاعدت دعوات من حضي بكليجاية بالدعاء الى روح من وزعت لأجله الكليجة ، بإستثناء سيدة كانت تجلس بجانبي ، فقد اصرت على معرفة اسم من ستقرأ على روحه سورة الفاتحة . ولم تستجب صاحبة الكليجة لها رغم الحاحها الشديد .
ولما قلت لها : يا حاجة انت ياهو مالتج باسم المرحوم . اقرأي الفاتحة وخلص ..
استنكرت السيدة هذا التدخل اصارخ في العرف والشريعة وقالت : لا عيني ميجوز غير نعرف منو الميت ؟.
قلت لها : شنو تريدين تناسبيه ياحجية . ؟ لو ماكو داعي تقرين فاتحة . قالت : لا عيني لعد ليش اخذنه الكليجة ؟
قلت لها : جيبيهه دنرجعهه .
قالت : بيمه مو عيب ؟
ولما وجدت ان لاجدوى في اقناع هذه السيدة بقراءة سورة الفاتحة دون معرفة اسم المرحوم ، زحلقت نفسي بعض الشئ على الكرسي وتظاهرت بالنوم . اختلست من الكيس قطعتان من الكليجة فضلا عن علبة من السفن اب ناولتني اياها احدى السيدات فكانت تلك هي كل طعامي وشرابي برحلتي طبعا مع بعض علب الماء البارد التي كان الزوار يوزعونها على الناس بلا تعيين .
في الساعة 45 / 7 صباحا وصلنا الى النجف وبدأت رحلة البحث عن مقامات الموتى التي لم اتمكن من الوصول اليها دون الاتصال بالدكتور الدفان الذي يهرع لي بحكم علاقتي الحميمة معه ليرشدني الى قبور احبتي . الاّ ان العجيب في هذا الرجل الذي نال شهادة الماجستير والدكتوراه في اختصاص علمي نادر يحمل في عقله خارطة المقبرة كلها فلم يسأله احداً عن قبر قريب له الاّ واوصله اليه عن طريق المرافقة او الارشاد الموقعي بالدلائل .
وما يلفت الانتباه كثرة المتسولين في الطرق الرئيسية داخل المقبرة ولكن وفق طرق تكنولوجية حديثة . فلم يعد المتسول يتعب نفسه بالعويل والنواح واللطم على هذا وذاك بل يكتفي بوضع لاود سبيكر على صندوق او كرسي تالف على طريق السابلة وهو يجلس تحت شجرة او شمسية يحمي نفسه من حرارة الشمس ويتمتع بالتدخين وشرب الماء البارد فضلاً عما تجود به ايدي الزوار .
ومن الطريف ان طفلاً يهرول خلف امه التي تسير بخفة وهو يسألها : ماما .. احنه وين رايحين ؟ ترد عليه : رايحين نعايد ابوك . وناولتني اثناء مشيها برتقالة كنت بحاجة لها في تلك اللحظات .
وجدت انني قد اديت واجبا كان يثقلني منذ اكثر من عام ، وادركت بأني يجب ان اغادر المكان للصعود في اول سيارة تقلني الى مدينتي الحبيبة والغاء بقية فقرات البرنامج الذي اعددته لنفسي حفاظا على صحتي وعدم احراج الاخرين بضيافتي .