لا تُذكر سراييفو الآن إلا وتُذكر معها مدرستُها المعروفة (مدرسة الغازي خسرو بك) التي بقيت منذ تأسيسها في 1531م (937هـ) وإلى الآن منارة للعلوم الإسلامية، وكذلك مكتبتها المشهورة (مكتبة الغازي خسرو بك) التي تحتوي على أهم مجموعة للمخطوطات الشرقية في البوسنة، تمثل التواصل الثقافي بين البوسنة والعالم العربي الإسلامي في القرون الأخيرة.
ومع أهمية هاتين المؤسستين بالنسبة للبوسنة، إلا أن خسرو بك كان أكبر مَن أن يقتصر اسمه عليهما، بل إن منشآته الأخرى التي بناها في سراييفو جعلت هذه المدينة تصل إلى العصر الذهبي لها في القرن السادس عشر (العاشر الهجري).
دراسة عن الغازي خسرو بك
وعلى الرغم من ذلك، لم يحظ الغازي، مع ما كتب عنه من دراسات ومقالات خلال المائة سنة الأخيرة، بما يستحقه. ومن هنا يأتي الكتاب الصادر حديثًا للدكتورة بهية زلاتار، مديرة معهد الدراسات الشرقية في سراييفو، وهو رسالتها للدكتوراه، ليعوّض ذلك ويلقي الضوء على إسهام أسرته ومن ثم إسهامه في تطور سراييفو لكي تصل إلى عصرها الذهبي.
ومن الواضح أن العمل في هذا الكتاب المرجعي عن الغازي خسرو بك يعود إلى عشرين سنة على الأقل (منذ 2011م)، إذ كانت نواته ورقةً للمؤلفة بعنوان "العصر الذهبي لسراييفو" تقدمت بها إلى الندوة الدولية التي أقيمت في مارس 1993م بمناسبة الذكرى ال 500 لتأسيس سراييفو، تحت قصف المدفعية الصربية للمدينة آنذاك، ومن ثم عملت على التوسع فيها حتى انتهى الأمر إلى كتاب من 236 صفحة، يغطي كل مساهمات هذه الشخصية التي تختزل عادة بالمدرسة والمكتبة.
يتميز الكتاب بكون المؤلفة تركز على المحيط العام في الدولة وعلى الوسط العائلي الذي ولد فيه ونشأ وتأثر خسرو، الذي اشتهر في ما بعد بلقبه "الغازي"، الذي حصل عليه لشجاعته العسكرية وانتصاراته التي حقّقها على رأس الجيش العثماني.
نسب الغازي خسرو بك ونشأته
ولد خسرو في سرز (شمال اليونان حاليًا)، حيث كان أبوه واليًا عليها، كما كانت أمه سلجوقة بنت السلطان بايزيد الثاني (1481 - 1512م) (886 - 918هـ).
ولذلك فقد تأثر "حفيد السلطان" بالمحيط العائلي والوضع العام للدولة آنذاك. فقد تميّز عهد السلطان بيازيد الثاني بالسلام مع الدول المجاورة، وباهتمامه ببناء المنشآت العمرانية الكبيرة في إسطنبول وأدرنة وأماسية وغيرها، كما اشتهر عهده بالتسامح، حيث رحّب باليهود المهجّرين من إسبانيا والبرتغال في نهاية القرن الخامس عشر (التاسع الهجري).
وخلّف السلطان 12 بنتًا، تزوجت ثلاث منهن من شخصيات بوسنوية، ومنهن سلجوقة، التي تزوجت من فرهاد بك الذي كان ينتمي إلى أسرة معروفة في الهرسك.
ولعبت أسرة خسرو، خاصة أمه سلجوقة، دورًا كبيرًا في التطور العمراني لسرز، فعندما فتح العثمانيون سرز في 1383م (785هـ) كانت مجرد بلدة صغيرة، ولكنها أخذت تتطور بسرعة بعدما بنيت فيها منشآت عمرانية كبيرة. وكان لسلجوقة وزوجها الثاني محمد بك (الذي تزوجته بعد وفاة فرهاد بك) إسهام كبير في هذا التطور العمراني. فقد بني زوجها محمد بك في 1492م (897هـ) واحدًا من أكبر جوامع البلقان وأجملها، كما أن سلجوقة بنت في إطار وقفها الذي وثقته في 1508م (913هـ)، جامعًا ومدرسة ومكتبة .. إلخ. وفي هذا المحيط العائلي نشأ خسرو وأخته نسلي شاه، اللذان كان لهما دورهما لاحقًا في سراييفو.
والي البوسنة والهرسك العظيم
وكان خسرو بعد وفاة أبيه المبكرة، قد أرسلته أمه إلى جده السلطان بايزيد الثاني لكي يعتني به في مدرسة البلاط، وبعد إكمال دراسته وتدريبه العسكري بدأ العمل في القصر، ثم عيّنه السلطان أميرًا على سنجق سمدرفو (صربيا) في 1519م (925هـ)، ثم أميرًا على سنجق البوسنة في 1521م (927هـ).
المجد العسكري والسياسي لخسرو بك تحقق مع تولي سليمان القانوني الحكم (1520 – 1566م) (926 - 974هـ)، فشارك في فتح بلغراد 1520م (926هـ)، وفي حصار فيينا الأول 1529م (936هـ)، والثاني 1532م (939هـ) .. إلخ، ما منحه لقب "الغازي" تقديرًا لشجاعته. وعيّنه السلطان على رأس ولاية بلغراد في 1533م (939هـ)، ولكنه بناء على رغبته عينه واليًا على البوسنة التي بقي على رأسها حتى وفاته في 18 يونيو 1541م (948هـ)، حيث دفن في سراييفو التي أحبها، والتي وصلت في عهده إلى عصرها الذهبي.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن السهل الذي تمتد فيه سراييفو حاليًا على امتداد نهر ملياتسكا، وقع بيد العثمانيين مبكرًا حوالي 1450م (854هـ)، أي قبل فتح البوسنة في 1463م (868هـ)، وبنى فيها آنذاك "سراي" (التي استمدت اسمها اللاحق منه) للوالي الأول عيسى بك، الذي أقام فيها لاحقًا في 1462م (866هـ) وكان نواة للحاضرة الجديدة.
العصر الذهبي لسراييفو
تطور سراييفو الكبير بدأ مع عودة خسرو بك من الحصار العثماني الأول لفيينا في 1529م (936هـ)، حين أخذ ببناء المنشآت المختلفة (الدينية والثقافية والاقتصادية) في إطار وقفه الكبير، الذي وصلت معه سراييفو إلى عصرها الذهبي.
وعادت زلاتار إلى مصادر هذا الوقف الكبير، وبالتحديد إلى الوقفيات الثلاث (تعود الأولى إلى 938هـ = 1531م، والثانية إلى رجب 943هـ = يناير 1537م، والثالثة إلى جمادى الثانية 944هـ = نوفمبر 1537م) التي تزخر بالمعلومات المختلفة عن المنشآت العمرانية الكثيرة التي بناها خسرو بك.
وبهذا الشكل يبدو الكتاب نموذجًا عن أهمية الوقفيات في كتابة التاريخ العمراني والاقتصادي الاجتماعي للمدن. فقد كان وقف خسرو بك يشمل النوع العادي (وقف الأراضي والأسواق والخانات .. إلخ) والنوع الجديد (وقف النقود)؛ لتأمين الدخل الكافي للإنفاق على منشآته الخيرية (الجامع والمدرسة .. إلخ). وكان وقف النقود يقوم على 900 ألف درهم (أقجه) تُشغَّل على شكل قروض صغيرة للتجار والحرفيين بفائدة سنوية محددة (10%)، وتدرّ لوحدها 90 ألف درهم كانت تنفق على الجامع والمدرسة والمكتبة .. إلخ.
جامع خسرو بك
وعلى رأس هذه المنشآت كان الجامع الكبير (جامع خسرو بك)، الذي لا يزال شامخًا في قلب سراييفو. وقد انتهى بناؤه في نهاية صيف 1531م (938هـ) وجاء تحفة فنية، نظرًا لأن مصممه "نجم أمير علي" كان هو الذي صمم جامع السلطان سليم في إستانبول والذي تتلمذ على يديه معمار سنان. وقد تضرر هذا الجامع خلال القرون الأخيرة عدة مرات نتيجة الزلازل والحروب، كان آخرها ما تعرض له خلال حرب 1992 – 1995م، ولكنه كان يستعيد بسرعة رونقه السابق.
مدرسة خسرو بك
والى جانب الجامع، بنى خسرو بك مدرسة كبيرة على روح أمه، ولذلك اشتهرت أولًا باسم "المدرسة السلجوقية" ثم باسم "المدرسة الرصاصية"، لان سقفها كان مغطى بالرصاص، وأخيرًا باسم بانيها "مدرسة الغازي خسرو بك". وكان لهذه المدرسة تأثير خاص في الحياة الثقافية والتعليمية في سراييفو، وهو ما استمر حتى الآن، كما تقول زلاتار.
مكتبة الغازي خسرو بك
أما المكتبة التي ورد ذكرها في الوقفية، فقد كانت أولًا في إطار المدرسة، ولكنها مع ازدياد عدد الكتب فيها نُقلت إلى مبنى خاص لها في جوار الجامع ثم إلى مبنى أكبر في جوار جامع السلطان، واستقرت الآن في المبنى السابق لمدرسة الإناث.
أوقاف أخرى لخسرو بك
والى جانب هذه المنشآت المعروفة أكثر، تركز زلاتار على المنشآت الأخرى التي بناها خسرو بك، والتي كانت لها أهميتها بالنسبة للحياة الاقتصادية والاجتماعية، فقد بني في إطار الوقف البزستان، الذي لا يزال يستخدم حتى الآن كمركز تجاري، كما بني "طاشلي خان" (الخان المبني من الحجر) الذي تضرر كثيرًا في الحريق الكبير في 1879م (1296هـ)، ولم تبق سوى آثاره في حديقة "فندق أوروبا".
ومن المنشآت المهمة كانت التكية أو "العمارة" التي كانت تقدم الوجبات المجانية، سواء للمحتاجين في سراييفو أو للعابرين فيها. وكانت هذه المنشأة، تستهلك حوالي نصف الدخل الذي تدرّه أصول الوقف (138.220 ألف دهم). والى جوارها بنيت "دار الضيافة" (مسافر خانه)، التي كان ينزل فيها المسافرون أو العابرون لسراييفو. وقد تضررت كثيرًا التكية ودار الضيافة نتيجة لحريق 1879م (1296هـ) وأقيمت مكانهما مبان أخرى للوقف.
الوقف الكبير الذي أنشأه خسرو بك بقي ينمو حتى بعد وفاته، وذلك بفضل الولاية أو الإدارة الجيدة عليه، فقد بنيت بعد وفاة خسرو بك عدة منشآت جديدة تدر الدخل، ومن ذلك أربعة خانات وحمام. وكان هذا الحمام يتألف من قسمين (رجالي ونسائي)، وقد أُجّر مؤخرًا إلى رجل أعمال (عادل ذو الفقار باشيتش) ليحوله إلى مقر ل"المعهد البشناقي".
________________
المصدر: جريدة المساء المغربية، 2 من ديسمبر 2011م.
محمد موفاكو الأرناؤوط: دور الوقف في نشوء المدن الجديدة في البوسنة (سراييفو نموذجا)، مجلة أوقاف – الكويت، السنة الخامسة، العدد (8)، ربيع الأول 1426هـ / مايو 2005م.
محمد موفاكو الأرناؤوط: الوقف في العالم الإسلامي ما بين الماضي والحاضر، الناشر: جداول للنشر والتوزيع – بيروت، الطبعة: الأولى، 2011م.