القيمة الدلالية للصوت
مقدمة:
إن اللغة ظاهرة صوتية تختلف اختلافًا كليًّا عن سائر الرموز غير اللغوية، ومن ثم، فإن دراستها دراسة علمية تستوجب البدء بالأصوات بوصفها وحداتٍ متميزةً تنتج عنها آلاف الكلمات ذات الدلالات المختلفة.
والأحرى بالذكر أن هذه الأصوات تؤدي دورًا دلاليًّا هامًّا فعّالاً في تحديد معاني الكلمات وتوجيهها[1].
اقتضت طبيعة العنوان أن أتناوله، على التقسيم والتصميم الآتي:
المحور الأول:
تعريف الصوت:
الصوت أو "الفونيم": هو أصغر وَحدة صوتية عن طريقها يمكن التفريق بين المعاني.
المحور الثاني:
وللصوت نوعان:
أ- قطعي أو تركيبي، وتُمثِّله الصوامت والصوائت.
ب- فوق قطعي أو فوق تركيبي، ويتمثل في الأنغام والنبرات والمقاطع والفواصل.
المحور الثالث:
القيمة الدلالية:
إن القيمة الدلالية هي ما تؤديه الأصوات للكلمة من دور في إظهار المعنى وتوجيهه.
وكل حرف أو حركة في اللغة العربية له وظيفة دلالية.
المحور الرابع:
ومن مظاهر القيمة الدلالية ما يأتي:
1- التبديل:
هو إحلال صوت مكان صوت آخر؛ بحيث يؤدي ذلك إلى حدوث تغير دلالة الكلمة.
وقد أدرك اللغويون القدماء هذا بالرغم من أنهم لم يصرحوا به.
على سبيل المثال: ابن جني الذي اشتهر واهتم كثيرًا بالبحث في الأصوات ودورها في تحديد دلالات الكلمات، يقول في كتابه الخصائص: "فأما مقابلة الألفاظ بما يشاكل أصواتها من الأحداث فباب عظيم واسع، ونهج متلَئبٌّ عند عارفيه مأموم، وذلك أنهم كثيرًا ما يجعلون أصوات الحروف على سمت الأحداث المعبَّر بها عنها، فيعدّلونها ويحتذون عليها، وذلك أكثر مما نقدره وأضعاف ما نستشعره، من ذلك قولهم: "خضم وقضم، فالخضم لأكل الرطب كالبِطّيخ والقثّاء وما كان نحوهما من المأكول الرطب، والقضم للصُّلب اليابس، نحو: قضمت الدابة شعيرها، ونحو ذلك، فاختاروا الخاء لرخاوتها للرطب، والقاف لصلابتها لليابس، حذوًا لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث"[2].
ومن الحركات كذلك مثل: فهمتُ وفهمتَ و فهمْتِ.
نجد من خلال هذه الأمثلة البسيطة مدى أهمية هذه الحركات في وظيفتها التحديدية للدلالة والتوجيه؛ بحيث الضمة على حرف التاء، دلت على الشخص المتكلم.
والفتحة دلت على المذكر المخاطب، والكسرة أشارت إلى المؤنثة المخاطبة.
ومثل ذلك لفظ مِرقاة بكسر الميم، ومَرقاة بفتح الميم، فاللفظ نفسه دال على الحدث الذي هو الرُّقي.
وبالكسر يدل على ما ينقل ويعتمد عليه وبه، وبالفتح على أنه مستقر في موضعه كالمنارة.
وكذلك "مِن ومَن" يختلفان اختلافا متضادًّا، من حيث الحرفية والاسمية.
فأما الذي فيه الكسرة فهو حرف الجر، والذي فيه الفتحة فهو اسم، إما استفهام أو موصول.
2- التنغيم:
هو ارتفاع الصوت وانخفاضه؛ مراعاة للظرف المؤدَّى فيه، أو تنويع الأداء للعبارة حسب المقام.
أو عبارة عن تتابع النغمات الموسيقية أو الإيقاعات في حدث كلامي معين[3].
وهذا التنغيم يكون على مستوى الكلمة، وكذلك على مستوى الجملة، ويستعمل للتفريق بين المعاني التي تختلف حسب السياق المقامي.
لقد أورد ابن جني مُسَوِّغات حذف الصفة مما يحسه المتلقي، وما دل عليه الحال، مثل: سِيرَ عليه ليلٌ؛ بمعنى: ليلٌ طويلٌ، حُذِفَت الصفة لما دل من الحال على موضعها؛ وذلك أنك تُحِس في القائل لذلك من التطويح والتطريح والتفخيم والتعظيم، ما يقوم مقام قوله: طويل، أو نحو ذلك وأنت تحس هذا من نفسك إذا تأملْتَه، وذلك أن تكون في مدح إنسان والثناء عليه، فتقول: كان - والله - رجلاً، فتزيد في قوة اللفظ بـ(الله)، وتتمكن في تمطيط اللام وإطالة الصوت بها وعليها؛ أي: رجلاً فاضلاً.
وابن يعيش يتحدث عن النُّدْبة حيث يقول: "اعلم أن الندبة مدعو؛ ولذلك ذُكِر مع فصول النداء لكنه على سبيل التفجُّع، فأنت تدعوه وإن كنت تعلم أنه لا يستجيب، كما تدعو المستغاث به، وإن كان بحيث لا يسمع كأنه تعده حاضرًا".
وأكثر ما يقع في كلام النساء لضعف احتمالهن وقلة صبرهن، ولما كان مدعوًّا بحيث لا يسمع أتوا في أوله بـ"يا أو وا"، تمد الصوت، ولما كان يسلك في الندبة أو النَّوْح مذهب التطريب زادوا الألف آخرًا للترنم"[4].
3- التنوين:
ظاهرة صوتية، له مكانة دلالية عظيمة، ويؤتى به بديلاً عن حرف، مثل:دواعٍ، والتنوين هنا بديل عن حرف الياء.
أو عن كلمة مثل: الناس فبعضٌ صالح، وبعض طالح، فتقدير الجملة: فبعض الناس صالح، وبعضهم طالح، والتنوين ناب عن الكلمة.
أو عن الجملة، وهذا ما يأتي بعد إذ التي تجيء مضافًا إليه.
كقول مَنْ عز شأنه: ﴿ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ﴾ [الزلزلة: 4].
ويوظَّف التنوين للتفريق بين التعريف والتنكير، فهو عندما يلحق المبنيات، تكون وظيفته التنكير للكلمة الملحق بها، مثل: صهْ، فحين تسمع شخصًا يتحدث في أمر معيَّن لا يَهُمُّك سماعه، فتقول له: صهْ بسكون الهاء، تريد منه السكوت عن الكلام في هذا المخصوص الذي يتحدث فيه، وأما إذا قلت له: صَهٍ بتنوين الهاء، فيكون المراد حينئذ طلب السكوت في جميع الموضوعات لا في موضوع معين.
4- المفصل:
ويعنى به سكتة خفيفة بين عدة كلمات، ويوظف بتحديد مكان انتهاء الكلمة، وبداية الكلمة الجديدة.
وهذه السكتة الخفيفة تؤدي إلى تغيّر دلالي، كقول الشاعر:
إذا مَلِكٌ لم يكن ذا هِبَهْ
فدعه، فدولَتُه ذاهِبَهْ
نجد أن "ذا هبة" في صدر البيت تحتوي على الأصوات نفسها، التي تتكون منها كلمة "ذاهبة" في عجز البيت، إلا أنهما تختلفان في الدلالة.
• الكلمة الأولى مركبة من كلمتين:
أ- ذا بمعنى الصاحب، وهو من الأسماء الخمسة.
ب- الهبة بمعنى العطية.
والنسبة بينهما نسبة إضافية؛ أي مركب إضافي.
• في حين أن الكلمة الثانية، مركبة من كلمة واحدة.
وهي اسم فاعل مؤنث للفعل ذهب.
والذي أحدث التفريق الدلالي بين الكلمتين هو وجود المفصل؛ أي وجود سكتة خفيفة بين اللفظين: ذا، وهبة.
المحور الخامس:
الاستنتاج
إن الدراسة الصوتية لها منزلتها الهامة ضمن دراسة المستويات المختلفة للغة، سواء دراسة المخارج والصفات.
كذلك لا يختلف الاثنان لما للصوت من قيمة دلالية، مهما اختلفت توجهات الدارسين اللغويين، سواء كان هذا الصوت تركيبيًّا أم فوق تركيبيٍّ.
تم بتوفيق الله وعونه.
[1] انظر مقدمة لدراسة فقه اللغة – محمد أحمد أبو الفرج - دار النهضة العربية - بيروت، ط: 1 - 1969، ص: 132.
[2] الخصائص- ابن جني، تحقيق محمد علي النجار، دار الهدى للطباعة والنشر، بيروت بلا تاريخ، ج: 2، ص: 157.
[3] أسس علم اللغة - ماريوباي - ترجمة أحمد مختار عمر، عالم الكتب بالقاهرة، ط: 2 – 1983، ص: 93.
[4] شرح المفصل- ابن يعيش- عالم الكتب بلا تاريخ، ج: ص: 13.