السلام عليكم...
هنا ، سأعود بذاكرتي الى سنوات بعيدة ، حين كنت مقيمة دورية في سنتي الاولى بعد التخرج ..
في كورس الاطفال تحديداً ..
كنت طبيبة مقيمة في احدى ردهات مستشفى المنصور ( حماية الأطفال ) ، و هي مستشفى الاطفال الملحقة بمجمع مدينة الطب .
في احدى ايامي الخافرة ...و بعد ان هدأ كل شيء ، و حين اقول ان كل شيء قد هدأ ، فهذا يعني انني كنت قد وصلت حد الاغماء تعباً ...و تجاوزت الساعة منتصف الليل ..
خلعت معطفي الابيض ..و رميت سماعتي على الطاولة في غرفة بيات الطبيب المقيم ..و ارتميت على السرير على نية استلقاء فقط ..لدقائق قبل ان استعد للنوم كما يستعد كل البشر ...لكنني غفوت .
لا ادري كم مر على اغفاءتي حين سمعت طرقاً شديداً على الباب ، نهضت مسرعة و فتحته ، لم اكن قد استبدلت ثياب عملي بعد ...كانت ام ملهوفة و حائرة تقول لي ان ابنها يرتجف بشدة ، (دكتورة الحگيلي ، ابني يمكن مشمور )، كانت تظن انه مصاب بنوبة تشبه الصرع ...ركضت معها الى الغرفة ...حين دخلت وجدت طفلاً ملائكي الملامح ، اشقر الشعر ، صحواً لكنه يرتجف بشدة ، كورقة في مهب ريح ....و قد لفته احدى مرافقاته ببطانية ...لم يكن يتحدث الى احد كما ابلغتني والدته ، التي كانت تظن انه لم يكن بكامل وعيه ..كان بعمر ٤ سنوات تقريباً .
منذ اللحظة الاولى عرفت انه لم يكن في نوبة صرع ..بل كان محموماً ..امرتهم بأزالة الاغطية الثقيلة عنه ...و سألت امه عن اسمه ...قالت انه (محمد ) او حمودي كما يسمونه تدليلاً...
توجهت اليه بالحديث ...قلت له ( حمودي ، لا تخاف ، انا د. .......، و اريدك تساعدني اقيس حرارتك بهذا المحرار ) نظر الي الطفل برقة و فتح فمه ...و حين قست حرارته كانت قد تجاوزت ٤٠ درجة ...فتوجهت بالامر الى والدته ان تخلع ملابسه و تحممه ...فورا و دون تأخير .
فعلت الوالدة ..و زرته ليلتها عدة مرات حتى عادت حرارته الى المستوى المطلوب ، فغفى ، و غفوت ..كان الوقت فجراً .
طالت مدة بقاء حمودي في المستشفى ، اذ لم يكن الوصول الى التشخيص في حالته متاحا ً ...لكن الملفت للأنتباه ..هو انه منذ تلك الليلة صار شديد التعلق بي ...كان خجولا جدا ..تحمر وجنتاه حين امر بغرفتهم ...و كانت امه تقول لي ان حمودي في ايام خفارتي ..يظل طوال الوقت يسأل عني ..حتى انه صار احياناً يتصنع لتنادي امه طبيبته المفضلة ...الغريب انه لم يكن يتحدث الي ابدا ...و كان يبتسم خجلاً حين احادثه ..
كانت اسرته من حصيبة في القائم ...كانت اسرة عالية التهذيب ...و لطول بقائهم صاروا اصدقاء لكل الموجودين ..و ظل حمودي متعلقاً بي وحدي .
بعد شهر تقريباً قرر طبيبهم المعالج ان لا داعي لبقائهم في الردهة ، اذ استقرت حالة الطفل ..
في ذلك الصباح كان ذوو حمودي يغلقون ملفه و يدفعون الحساب ، جاءني احد الزملاء و قال لي بعتب : انت وين ؟ اهل حمودي يريدون يطلعون من المستشفى و هو مدا يقبل ..الا يشوفچ قبل ما يطلع .
ضحكت غير مصدقة ...انا منشغلة في التور الصباحي و الطفل متشبث بالبقاء ...
رافقت زميلي الى حيث كانت الاسرة تنتظر ...و ما ان لمحتهم من بعيد حتى فوجئت بالطفل يركض نحوي ...كما يتجه الصغير نحو امه ...ثم يقفز ليحتضنني ، كمن يدرك انه مفارق بلا عودة .
احتضنني طويلاً ...بكيت ...و نظرت الى زميلي ..كان يحاول اخفاء دموعه ..ام الطفل كانت تبكي ايضاً .
غادر حمودي ....و لم اره بعدها ...و لليوم لم استطع ان افهم السر الذي جعله يتعلق بي هكذا .
قبل اسبوع حين كنت احادث اختي ، قالت لي ، اليوم حمودي تحرر ...سألتها : شنو ؟
ضحكت وقالت : اليوم حرر الجيش حصيبة من تنظيم داعش .
هناك اشياء لا تنتسى ...اشياء هي جزء من ارواحنا ...
ما زال حمودي يسكنني ...حمودي الذي ماعادت حصيبة تمر على مسامعي مرور الكرام منذ عرفته .
بعد كل السنوات تلك ...
محبتي ....