يقول مالكوم إكس إنه تمنَّى لو أن السجون تكون بلا قضبان؛ فهو لا يعترض على فكرة السجون ذاتها ولكن روحه الحرة كثيرًا ما أبغضت القضبان الحديدية الباردة التي تحيط بالزنازين إذ رأى أنّ «رجلًا يوضع خلف القضبان لا يمكن أن يُصلح أو ينسى لأن ذكرى القضبان لا تُمحى من ذاكرته مهما حاول هو محوها».
ولعلّ ما حدث مع الكاتب أوسكار وايلد هو خير دليل على صحة ما قاله مالكوم إكس؛ السجن لم يصلحه ولكنه ترك في نفسه أثرًا موجعًا وجرحًا بليغًا لا يندمل وظلَّت ذكرى القضبان كابوسًا رافقه طوال السنوات الثلاث التي عاشها بعد إطلاق سراحه. وايلد، الذي قال إنه إنسان بائس بالكاد يستطيع أن يهرب من الجنون في سجنه، قد عوقب في بداية سجنه بالحرمان من أحب شيء إلى نفسه: الكتب والقراءة. فيقول عن ذلك، «يحب المسئول معاقبتي بأخذ كتبي مني. يا له من أمر مريع أن تدع عقلك يطحن نفسه بلا هوادة بين مطرقة الندم وسندان تأنيب الضمير! إن الكتب هي الشيء الوحيد الذي يجعل الحياة – أي حياة – قابلة لأن تُعاش».
في سجنه كتب وايلد كتابه الشهير «من الأعماق» الذي يعتبر رسالة طويلة يناقش فيها شعوره ومسيرته في السجن والمحاكمات من وجهة نظر مغرقة في السوداوية، وكذلك قصيدة تحكي عن رجل قتل زوجته ثم أودع في السجن أسماها «أنشودة سجن ردنغ» وقد حققت مبيعات عالية حين نُشرت عام 1898.
لم يكن وايلد هو الأديب الوحيد الذي كتب أعمالًا خالدة في سجنه إذ سبقه وتلاه أدباء لم يكن في أيديهم أي شيء ليفعلوه سوى الكتابة وترجمة مشاعرهم المضطربة ونفسيتهم الجريحة في كلمات لأن الكتابة كانت هي الشيء الوحيد الذي منحهم حياة أخرى يعيشون فيها مع أبطال رواياتهم بعيدًا عن القضبان الحديدية الباردة وأحجار الزنازين الصماء.
اقرأ أيضًا: ما لا تعرفه عن مالكوم إكس.. كيف أثر في الأدب والرسم؟
دون كيشوت.. الفارس الذي حارب طواحين الهواء
قيل إنه سُجن بسبب إفلاس البنك الذي يضع فيه ودائعه وقيل بسبب الاختلاس، ولكن المؤكد في الأمر أن الإسباني ميغيل دي ثيربانتس قد واتته فكرة روايته الخالدة «دون كيشوت» في سجنه، وقد قيل إنه بدأ في كتابتها فعليًا في محبسه.
إنها حكاية ألونسو كيخانو، ذلك الرجل الطويل الهزيل الذي شارف على 50 عامًا من عمره، المقيم في إقليم لامنتشا بإسبانيا والذي سُيطلق على نفسه فيما بعد لقب «دون كيشوت». يحبّ ألونسو الكتب التي تحكي عن الفروسية وأخلاق الفرسان، بل ويُصدِّق كل الحكايات الواردة فيها حتى وإن بدت غير واقعية على الإطلاق، وهو لا يكتفي بكلّ الكتب التي قرأها ويسعى إلى شراء المزيد لدرجة أنه يبيع أجزاء من أرضه لتغطية تكاليف شراء الكتب.
لم ينته الأمر بألونسو كيخانو عند تبديد معظم ثروته على كتب الفروسية فقط، بل إنه يبدأ في الخلط بين الواقع والخيال ويفقد عقله جزئيًا من قلة النوم والراحة ويقرر أن يترك منزله بحثًا عن مغامرات وينذر نفسه لمساعدة المستضعفين ونشر العدل تمامًا كما يليق بفارس نبيل.
وهكذا أصبحت حكاية الرجل الذي ترك دياره مرتديًا خوذة قديمة وحاملًا درعًا قديمة بصحبة حصانه الهزيل روسينانتي واحدة من أهم الأعمال الأدبية الأوروبية على الإطلاق. لقد أصبح هذا الفارس الذي حارب طواحين الهواء مُلهمًا للعديد والعديد من الأدباء الكبار من مختلف بلاد العالم وكذلك أصبح مثالًا على كل إنسان حالم يتمنى أن يعيش في عالم يتفق ومبادئه وغاياته النبيلة وعندما لا يستطيع إيجاده في الواقع فإنه يسعى لخلقه في مخيلته ويعيشه.
لوحة تصور دون كيشوت وهو يحارب إحدى طواحين الهواء.
في محبسه أراد ثيربانتس أن يكتب رواية تحكي عن شخص عادي، شخص يسعى لخلق عالمه الخاص بعيدًا عن عالم لا يلائمه. ربما كان ينظر وقتها إلى السماء الواسعة من خلال قضبان الزنزانة وربما استلهم هذه الشخصية من نزلاء آخرين في السجن. وعلى الرغم من أن هناك الكثير من القيل والقال حول ما إذا كان ثيربانتس قد كتب روايته أثناء إقامته في السجن أم أن محبسه هو من ألهمه الفكرة فقط تأتي مقدمة روايته تحمل دليلًا دامغًا على أن هذه الرواية قد كُتبت في السجن حقًا؛ فيقول ثيربانتس «رغم أن هذا العمل قد وُلد في السجن ووجد نفسه محبوسًا في زنزانة، إلا أن خيال كاتبه حرًا يتجول مع فارسه المخبول في طرق إسبانيا المغبرة».
الفارس السجين توماس مالوري وموت الملك آرثر
«موت الملك آرثر»، تلك الرواية الأسطورية التي تحكي حكايات ومغامرات الملك آرثر وفرسان المائدة المستديرة، وهي أيضًا تعتبر من أوائل الأعمال الأدبية المطبوعة على يد وليام كاكستون صاحب أول مطبعة في بريطانيا عام 1485. قد لا تكون تعرف هذه الرواية ولكنك بالطبع تعرف سلسلة أفلام حرب النجوم، والمسلسل الشهير لعبة العروش ويكفيك أن تعرف أن أسطورة «موت الملك آرثر» التي قام السير توماس مالوري بتجميعها من المصادر الفرنسية والإنجليزية وأضاف الكثير من الأحداث عليها لها أثر كبير على هذين العملين الكبيرين وغيرهما الكثير من الأعمال الأدبية والتلفزيونية.
كتب توماس مالوري هذا العمل الأدبي الكبير من محبسه بسجن نيوجيت ذي السمعة السيئة ببريطانيا، ونحن لا نعرف عنه الكثير سوى أنه كان «الفارس السجين» الذي ناشد قُراءه بالصلاة له والدعاء لروحه بالخلاص في الحياة الدنيا أو في الآخرة. كان مالوري أحد النبلاء ولسبب غير معروف اتجه إلى عالم الجريمة وقاد عصابة مكونة من 100 رجل كان يغير بها على أموال وماشية النبلاء.
لوحة لفرسان المائدة المستديرة وهم يستعدون للتفرق بحثًا عن الكأس المقدسة.
لم يطق مالوري السجن ولم تتحمله روحه وحاول الهرب مرتين ولكن عندما أُسقط في يده قرر الذهاب بخياله في رحلات ومغامرات الملك آرثر وفرسان المائدة المستديرة النبلاء وكتب هناك «موت الملك آرثر» التي اعتمد فيها بالأساس على قصيدة فرنسية تحكي عن الملك آرثر واستعان بمراجع أخرى إنجليزية ليكتب أول عمل روائي طويل يحكي قصة الملك آرثر.
على مدار 21 كتابًا حكى مالوري عن مملكة الملك آرثر، وعن سيفه المسحور، والأمراء المتمردين، وكذلك فرسان المائدة المستديرة والبحث عن الكأس المقدسة – التي تمثل البحث عن المستحيل – والخيانات التي واجهها آرثر من أقرب الناس إليه حتى موته وانهيار مملكته. وهكذا شهد سجن نيوجيت، الذي اشتهر بفظاعته وبأنه سجن الموت لأنه كان سجن المحكومين بالإعدام، ولادة أحد أهم الأعمال الأدبية في العالم التي أحدثت تأثيرًا كبيرًا على الكثير من الأدباء والكثير من الأعمال الأدبية.
ترنيمة المقطرة.. دانيل ديفو ينظم شعرًا لآلة تعذيب!
أتعرف ما هي المقطرة؟ إنها آلة تُصنع من إطار خشبي أو معدني بها فتحات لإخراج الرأس واليدين وكانت تُستخدم فيما مضى للعقاب العلني فكان يُربط المذنب عليها ثم يتم جلده في أحد الميادين العامة، وإلى هذه الآلة الرهيبة كتب دانييل ديفو ترنيمته!
ترجع الحكاية إلى شهر ديسمبر (كانون الأول) عام 1702 حين كتب الأديب الإنجليزي، دانييل ديفو، كتيبًا بعنوان «أقصر الطرق للقضاء على المنشقين» بالتزامن مع قراءة مشروع قانون بمجلس اللوردات البريطاني بهدف ردع المنشقين عن الكنيسة الأنجليكانية (البروتستانتية).
رأى ديفو، الذي اشُتهر بتأليف وتوزيع المنشورات السياسية والإصلاحية، أن هذا القانون من شأنه أن يشكل تهديدًا حقيقيًا للمنشقين عن الكنيسة. ولأنه كان ضد الاضطهاد الذي تمارسه الكنيسة على كل من ينشق عليها أو ينتقدها فقد قرر أن يكتب منشورًا هزليًا تبنى فيه لهجة أحد أعضاء مجلس اللوردات ووقعه باسم مستعار وطالب فيه بقتل كافة المنشقين لأن هذا – بكل بساطة – هو أقصر الطرق لإسكاتهم إلى الأبد.
والمضحك في الأمر أن أعضاء الكنيسة الأنجليكانية العليا قد صدقوا أن أحد أعضاء مجلس اللوردات قد كتب هذا الكتيب بالفعل وقد قاموا بتأييده بدورهم بل وصرحوا علنًا بأنه «قد حان الوقت لاجتثاث الهرطقة من جذورها وجز الأعشاب الضارة التي أفسدت جمال حديقة الكنيسة».
على الرغم من أن ديفو قد وقع الكتيب باسم مُستعار إلا أن قادة الكنيسة قد استطاعوا التعرف على الاسم والهوية الحقيقيين لكاتب المقال وتم القبض عليه وعوقب بالسجن في سجن نيوجيت وكذلك الجلد على المقطرة ثلاث مرات في ميدان عام. وذلك لأن كتيبه ذاك قد ساهم في كشف الاضطهاد الذي تمارسه الكنيسة ضد المنشقين مما أدى إلى تعاطف الكثير من العامة معهم.
لوحة بعنوان ديفو على المقطرة.
كان العقاب على المقطرة أشد بشاعة وأكثر قسوة وإيلامًا من سجن نيوجيت إذ يقول وليام فولر، موزع النشرات السياسية وأحد الذين عوقبوا على المقطرة قبل ديفو، إن الشيء الأكثر سوءًا من التسع وثلاثين جلدة على المقطرة كان «القذارات والأوساخ والبيض الفاسد الذين يلقيهم الجمهور». ولكن ديفو لم ينكسر للمقطرة ولم يبك عليها بل ألّف ترنيمة إليها وقال فيها: «أخبريني أيتها الآلة الكبيرة كيف لي أن أفهم أو أتصالح مع عدالة هذه الأرض! وكيف لرجال مخلصين يتمتعون بالفطنة ورهافة الحس أن يعلقوا عليك».
لقد حدث ديفو المقطرة عن الرجال الذين يُجلدون عليها بسبب جرائم لا تستحق كل هذا العذاب والتنكيل بينما لا يتم معاقبة القساوسة وأعضاء الحكومة البريطانية على جرائمهم تجاه الشعب. وهكذا كتب ديفو ترنيمة المقطرة واستطاع أن يُسمعها للجمهور الذي تأثر كثيرًا بها وبدلًا من أن يرميه بالفاكهة والبيض الفاسدين كما فعل مع أقرانه رماه بالورود في سابقة كانت الأولى من نوعها.
بيسان كانتوس: القصيدة التي كُتبت بين جدران المصحة النفسية
في بداية الحرب العالمية الثانية، أثار الشاعر والناقد الأمريكي عزرا باوند عاصفة من الاستهجان حين أعلن تأييده لموسوليني وصرَّح بمقته لليهود بشكل علني. لقد كان باوند مسجونًا بهاجس اليهود وكان يعتقد أن المراباة التي يحترفونها إنما تنخر في الحضارة الغربية وتصيبها بالعفن.
ولهذا السبب تم تجاهل التاريخ الطويل لعزرا باوند ومكانته الأدبية كأحد رواد الجيل الضائع من الأدباء وكذلك كونه الأب الروحي للحداثة الأدبية والشخص الذي وُلدت على يديه القصيدة التي تُعتبر أفضل قصيدة في القرن العشرين وهي قصيدة «الأرض الخراب» للشاعر ت. س. إليوت.
لقد كانت «الأرض الخراب» إحدى نتائج الحرب العالمية فهي بدت قصيدة ممزقة ممتلئة بالصخب والصور الفنية المقبضة التي مثلت حال العالم بعد الحرب. والحقيقة أنه لم تكن هذه القصيدة لترى النور لولا عزرا باوند الذي ألهب روح الحماسة في نفس ت. س. إليوت لنشرها حين عرض عليه مخطوطتها الأولية أثناء رحلتهم إلى باريس، كما أنه قد ساعده في تنظيم مقاطع القصيدة وجاد عليه بمراجعاته النقدية بصفته محرره الأدبي وصديقه المقرب.
لم يكن باوند صديقًا مقربًا لإليوت فقط بل كان صديقًا لأبرز أدباء عصره كجيمس جويس والشاعر روبرت فروست وكان يفيدهم كثيرًا بآرائه النقدية إلا أن هذا التاريخ العريض كله قد نُسي مقابل تصريح في الراديو أدلى به باوند عام 1943 ضد روزفلت واليهود ليُتهم بعدها بمعاداة السامية ويتم القبض عليه بتهمة الخيانة العظمى.
ولم يقتصر الأمر فقط على تجاهل تاريخ باوند ونبذه ستين عامًا وعدم تقليده أي وسام للشعر، ولكنه اتُهم بأنه مختل عقليًا ووجد نفسه محبوسًا قسرًا في إحدى المصحات النفسية حتى عام 1958.
الشاعر عزرا باوند.
في محبسه كتب باوند أعظم وأكمل أعماله الأدبية وهي قصيدة بعنوان بيسان كانتوس، ويشرح باوند في هذه القصيدة أحوال السجن والمسجونين ويتكلم فيها أيضًا عن الكثير من الأمور الاقتصادية والثقافية وكذلك الأمور المتعلقة بالحكم. والمثير للعجب هنا هو كيف يستطيع شخص مختل عقليًا أن يكتب قصيدة طويلة مكونة من 116 مقطعًا وكيف يستطيع أن يشير في قصيدة واحدة إلى هذا الكم الهائل من الأحداث التاريخية والمواقع الجغرافية!
لقد أثبتت هذه القصيدة أن عزرا باوند هو حقًا شاعر الشعراء وبأنه أديب كبير له ثقل وليس مجرد مختل عقليًا بلا قيمة لأنه أعلن تأييده لفريق دون فريق آخر. فالسجن لا يستطيع أن يكبح جماح الإبداع ولا أن يميت الملكة الإبداعية للكاتب ولكنه يميت روحه ويستنزفه نفسيًا حتى يخرج منه جسدًا قد بذل آخر فتات روحه في قطعة أدبية أخيرة كتبها في محبسه.