ارتفعت ببصرها الى قمة المكان ، فباغتتها الشمس بصفعة تلقتها اجفانها بردة فعلِ مقاتلٍ ألفَ مثل هذي الضربات فاتّقاها بلا تردد ...
بدت البناية عالية ، اعلى من هامة امنياتها ...انتفض الرجاء بقلبها ، فمضت خطواتها تسرع بها الى الداخل ...
مدخل واسع ...تزينه نباتات في اصص جميلة ..و موظفون يتحركون كدمى لا ترى ما حولها ...تلفتت يمنة و يسرة في غربة ، حتى تعثرت عيناها بثغر باسم ، و يدٍ تدعوها للأقتراب ...كانت الشابة الجميلة تقف خلف مكتب الاستعلام ...
- بم َ اساعدك ؟
- جئت للمقابلة ...
- اهلاً بك ...الطابق السابع من فضلك ..المصاعد على اليمين .
اليمين ! لأول مرة لم تعرف اتجاهاتها ...
كانت ترتجف من الاعماق قلقاً ..و القلق غول ٌ يمحو كل افكارنا المنتجة وقت الحاجة ...
ابتعدت عن موظفة الاستقبال التي انشغلت بشخص اخر ..فكرت مرة اخرى باليمين و المصعد ...
اغمضت عينيها ...سمعت رنة مألوفة ..كان احد المصاعد يفتح بابه كما يبدو ، تحركت كأعمى نحو مصدر الصوت ...فالتقت به وجهاً لوجه، بابه المفتوح كفم ٍ يدعوها ليبتلعها ...كان قلبها يهرول تحت لسانها ...احست انها تريد ايقاف هذا الجنون ، انها تريد ان تدير ظهرها و تستيقظ من كابوسها ..
لكن عقلها الواعي حرك ساقيها الى الامام ...فاحتضنها المكان الضيق المليء بالمرايا الخادعة ..و انطلق بها الى اعلى ...
الثاني.. الرابع ..السادس ...و في السماء السابعة لفظها قدرها المتأرجح بين السماء و الارض .
تنفست بعمق ..و اغلقت زر سترتها ...و سألت نفسها :- و الان ؟ اليمين أم اليسار !
قررت ان تختار اليسار ...و لم يخيب اليسار حسن ظنها ..اذ تلقفتها لافتة ( التعيينات ) بعد بضع خطوات في الممر الفارغ .
دلفت الى الغرفة الانيقة ...سمعت نفسها تقول :
- مرحباً ... انا هنا من اجل مقابلة العمل ...هل انا في المكان المطلوب ؟
رد عليها ابعد الجالسين بصوت بدا مألوفا ً للحظات :- بالتأكيد يا آنسة ...تفضلي هنا لو سمحت ِ.
انتابها ذلك الشعور القاتل الذي ينتابنا جميعاً ..." لقد رأيتُ كل هذا سابقا ً" ..الوجه ، الصوت ، وقع خطواتها نحو مكتبه ..الكرسي الذي اشار اليها بالجلوس عليه ...كل شيء ..كل شيء هنا مُعاد .
سألها بضع اسئلة ٍ معتادة ...تناول منها ملف معلوماتها ...و نهض ...نظرت اليه و هو يختفي وراء باب مجاور ...الباب ايضاً تعرفه ..
فركت صدغها بكفها ..كانت تسأل نفسها في الاعماق ..اذا كنت قد مررت يوماً بكل هذا ...اذاً يجب ان اكون عارفة بما سيحصل بعدئذ ...
اذاً ! ثم ماذا !
هاج القلق في صدرها كموج البحر ، احست انها لا طاقة لها على التنفس ...لماذا لا تستطيع تذكر نهاية المشهد ...؟!!
نظرت الى الجالسين ، بدت الوجوه المنشغلة صديقة الى حد ما ..
فتحت الباب ، عاد الرجل من حيث دخل ..قابلت ابتسامته بتساؤل :و الان ماذا ؟
- سنتصل بك بعد ايام لنبلغك بنتيجة المقابلة .
- شكراً .
مشت الى الممر فالمصعد و هي تعتصر دماغها ..تذكري ..تذكري ...لقد مررتِ يوماً بكل هذا ..حاولي ان تتذكري النهاية ...ماذا كان الجواب ...تذكري ...ثم ماذا الان ..ثم ماذا ؟!
انفتح باب المصعد نحو الاستعلامات ، فيما كانت مشغولة باعتصار خلايا دماغها ..مرددة دون شعور : ثم ماذا الان ؟ ثم ماذا ؟
سمعت صوت شابة الاستعلام تجيبها ...الان نحو اليسار ، الى الخارج يا انسة ...الى الخارج .
اذاً ..هذا .كان كل ما بقي عليها ان تتذكره ، خروجها الاول و الاخير .