اختار ترامب Make America Great Again شعارًا لحملته الانتخابية، واعدًا الأمريكيين أن يخلصهم من الدخلاء اللاتينيين، والعرب، والمسلمين، وكل ذوي الأصول غير الأمريكية، حتى أن مناصروه حرّفوا الشعار إلى Make America White Again، في إشارة واضحة لما يريدون فعله.
هؤلاء المناصرون هم أنفسهم من سامحوا ترامب بعد تسريب لحوار قديم له، يعطي نصائح مهينة بخصوص المرأة وعضوها التناسلي، ولم يكتفوا بذلك، بل إن امرأة من المؤيدين رفعت شعار أن ترامب فقط هو من يستطيع إهانتها.
ردًا على هذا الموقف، وعلى العديد من المواقف التي أظهرها ترامب ومؤيديه العنصريين، صنع كلوني فيلم Suburbicon، مستهزءًا بأقوال مّدّعي الأخلاق، ومستشهدًا بأفعالهم، منذ خمسينات القرن الماضي.
قصة فيلم Suburbicon
يبدأ الفيلم بإظهار ضاحية للسكان الأمريكيين البيض في أواخر خمسينات القرن الماضي، المنازل أنيقة ومخطط لها جيدًا، والأشجار مقلّمة، مما يعني أنها النموذج المثالي لضواحي البيض اليمينيين في تلك الفترة، حتى تقتحم أسرة داكنة البشرة هذه المحمية البيضاء لتجاورهم فيها، حينها تبدأ الأحداث في التحرك.
يرفض المجتمع الأبيض المحافظ وجود هذه البؤرة الملونة بجانبهم، ويبدأون في التصدي لها بشتى الطرق حتى لا يصاب مجتمعهم “المثالي” بأمراض أصحاب البشرة الداكنة، ولا تتأثر العائلات البيضاء بأخلاق الملونين، وأثناء انغماسهم في محاربة السكان الجدد، تحدث جريمة في الحي.
من بين كل جيران منزل العائلة الملونة، اختار صانعو الفيلم الاقتراب من عائلة واحدة فقط، تتسم ظاهريًا بكل ماهو مثالي بحسب مقاييس اليمين الأمريكي. فهي عائلة أمريكية بيضاء مسيحية محافظة، مكونة من رجل وزوجته وابنهما المطيع، الذين يستضيفون أخت الزوجة في المنزل، وسلّط صانعو الفيلم الضوء على واقع تلك الأسرة وتفاصيلها المشينة والمخلّة.
السيناريو والحوار
الفيلم من بطولة مات ديمون وجوليان مور وأوسكار إسحاق، ومن إخراج جورج كلوني، وهو الفيلم السادس الذي يخرجه في مشواره الفني كمخرج، ولكنه الفيلم الأول الذي يخرجه عن سيناريو كتبه الأخوين كوين، كما أنه الفيلم الأول الذي يخرجه كلوني بدون أن يظهر فيه في دور أحد الشخصيات، رغم كون اسمه مدرجًا من الأصل في طاقم التمثيل.
تعود قصة الفيلم الذي كُتِبَ بالمشاركة بين الأخوين كوين من جهة، ومخرج العمل جورج كلوني مع جرانت هيسلوف من جهة أخرى، عندما أراد كلوني أن يقدّم فيلمًا عن حادث حقيقي وقع في الخمسينات لعائلة ذات أصول أفريقية، ثم قرر دمجها مع سيناريو قديم للأخوين كوين كان من المفترض أن يؤدي فيه شخصية المحقق، ليقدم في النهاية فيلمًا يحمل نكهتهم، بالإضافة إلى القصة التي أراد تقديمها.
تتسم غالبية أفلام كوين، بجمع الجريمة مع حس ساخر رفيع، وهو ما حافظ عليه كلوني بحرفية، فالعنصريون يخافون على مجتمعهم، ويبدأون بطريقة همجية بالدفاع عن هذا المجتمع ضد العائلة الدخيلة، بينما تجري الجريمة الدموية تحت أنوفهم وفي شوراعهم الرئيسية دون أن ينتبهوا إليها، فهم مشغولون بالقضاء على العائلة التي لم تفعل شيئًا، وتدير خدها الأيسر عندما تُصفع على الأيمن. أما عن شخصية المجرمين في الفيلم، فقد جاءت مصبوغة بسمات أفلام كوين، بل إن قصة الفيلم نفسه تتشابه إلى حد كبير مع فيلمهما السابق Fargo.
يعد الحوار هو نقطة القوة الرئيسية في الفيلم، فالحوار مكثف بشكل جيد للغاية، لا يذهب هباءً، بل اُستغل كل مشهد في إضافة المزيد للفيلم، ولم يُهدر في شعارات جوفاء، كما استطاع استغلال خلفية المشاهد الصامتة، بإذاعة برامج تحلل الأزمة الملونة وتقف على أبعاد الوضع الاجتماعي وقتها.
بالرغم من الحوار الناجح، فقد فشل كلوني كمخرج في الدمج بين السيناريوهين، فبينما أظهر كل تفاصيل الأسرة البيضاء وكان التركيز الأساسي في السيناريو والحوار عليها، فقد أهمل بشكل كبير إعطاء تفاصيل وشكل للأسرة الملونة، فلم يرتبط بها المشاهد، كما أن الربط بين الأسرتين أو الحدثين كان واهيًا للغاية.
جاء التمثيل قويًا كما هو متوقع من مات ديمون وجوليان مور، أدّى ديمون دور الشخص الغاضب دومًا ولكنه يكظم هذا الغضب داخله، فظهر دائمًا منتفخ الأوداج وأحمر الوجه، أما الطفل نواه جوب، فقد كانت المهمة الملقاة على كتفيه الصغيرتين كبيرة، لأن أغلب ما يدور في بيت العائلة، نراه من خلال عينيه هو، خاصة بعدما استطاع فهم ما يدور من حوله، إلى أن نتوحد معه تمامًا في مشاهده الأخيرة بالفيلم.
بالرغم من الحس الساخر الخفيف الموجود في الفيلم، فهو لم يمنع المتلقي من الشعور بالقلق والتوتر طوال المشاهدة ترقبًا للخطوة التالية، مما يجعل تصنيف الفيلم بالكوميديا السوداء أمرًا غير حقيقي، فالسخرية الكامنة في المشاهد والتمثيل لم تصل به إلى هذا الحد، بل على العكس، لقد اضطر كلوني إلى حذف كامل مشاهد الممثل جوش برولين للحفاظ على إيقاع الفيلم.
تميز الفيلم أيضًا بالمباشرة الشديدة، التي ربما يراها البعض عيبًا قاتلًا في الفيلم، ولكنه بدا لي مثل المزحة الثقيلة المقصودة، التي أراد بها كلوني أن يفضح العنصريين ذوي البشرة البيضاء أمام أنفسهم، ويكشف لهم عن الوضاعة التي ميّزتهم فيما كانوا يتعالون على الأجناس الأخرى، مثل ذوي الأصول الأفريقية أو الأيرلندية، وأن الشر لا يأتي من الآخرين، بل منهم هم بالذات، لكنهم لا يزالوا يعتقدون أن الأذى يأتي من الأقلية الدخيلة، رافضين رؤية الحقيقة، وهذا الأمر لم ينته حتى الآن، والدليل هو ترامب وأنصاره.
حصل الفيلم على تقييم ضعيف من النقاد والجمهور على حدٍ سواء، فقد وجده البعض (من اليمين المحافظ تحديدًا) موجهّا ضدهم بشكل مباشر، فيما وجده آخرون مباشرًا كما لا يجب بالعمل الفني أن يكون. وهناك من أحسوا أنهم يشاهدون فيلمين منفصلين، واحد يتحدث تفصيليًا عن أسرة بيضاء، والآخر يعرض بشكل عام مأساة أسرة ملونة. ولكن لا يبدو أن هذه التقييمات تزعج كلوني على الإطلاق، فقد صرّح أن الفيلم ربما كان ليحصد تقييمات إيجابية إن أخرجه مخرجون آخرون، ولكنه راض تمامًا عن عمله. فقد أوضح وجهة نظره، وحقق من خلاله ما أراد.