ليست الأخلاق من مواد الترف، التي يمكن الاستغناء عنها، بل هي أصول الحياة التي يرتضيها الدين ويحترم ذويها؛ لذا ربط رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرية المسلم بحسن الخلق؛ فعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- قال: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «خِيَارَكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا»، من هنا كان حسن الخلق هو ركن الإسلام العظيم الذي لا قيام للدين بدونه، ولا حضارة ولا تقدم بغيره؛ فالإسلام إنما جاء ليغير الإنسان من السيئ إلى الحسن أو الأحسن، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن الضلال إلى الهدى، ومن نظم العباد ومناهجهم إلى نظام الله عز وجل ومنهجه.
والإسلام نظام أخلاقي، لكل عبادة فيه هدف أخلاقي واضح؛ يقول الله عز وجل في شأن الصلاة: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45]، ويقول عز وجل عن الزكاة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَ} [التوبة: 103]، ويقول عز وجل عن الصيام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ»، ويقول عز وجل عن الحج: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى..} [البقرة: 197].
يقول الإمام الغزالي(1): "حسن الخلق هو الإيمان، وسوء الخلق هو النفاق، وقد ذكر الله تعالى صفات المؤمنين والمنافقين في كتابه، وهي بجملتها ثمرة حسن الخلق وسوء الخلق؛ فوجود جميع هذه الصفات علامة حسن الخلق، وفقد جميعها علامة سوء الخلق، ووجود بعضها دون بعض يدل على البعض دون البعض"(2).
وحسن الخلق أعلى درجات الإيمان وأتمها؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا»، وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ»، وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا مِنْ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الْخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ»، واستوعب أبو الدرداء -رضي الله عنه- هذا الدرس جيدًا، ولذا سمعناه يقول: "إِنَّ العَبْدَ المُسْلِم يُحْسِن خُلُقَه حتَى يُدْخله حُسْن الخُلق الجنة، ويُسِيء خُلُقَه حَتى يُدْخله سُوء خُلُقَه النَّار.."(3).
وحسن الخلق لا يؤسَس في المجتمع بالتعاليم المرسلة، أو الأوامر والنواهي المجردة؛ إذ لا يكفي في طبع النفوس على الفضائل أن يقول المعلم لغيره: افعل كذا، أو لا تفعل كذا، فالتأديب المثمر يحتاج إلى تربية طويلة، وتعهد مستمر. ومن هذا المنطلق حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على غرس هذا المعنى في نفوس صحابته الكرام فقال: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا»، ومن هذا المنطلق أيضًا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول شيئًا إلا فعله، ولا يأمر بشيء إلا وكان له تطبيق واقعي في حياته، فصار بذلك أسوةً حسنةً في كل الأمور، ولن تصلح تربية إلا إذا اعتمدت على الأسوة الحسنة.
إن الرجل السيء لا يترك في نفوس من حوله أثرًا طيبًا، ولا بدّ -ليحصل التابع على قدر كبير من الفضل- أن يكون في متبوعه قدر أكبر، وقسط أجل، لذلك قال تعالى في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]، وشعر الصحابة بذلك وأحسُّوه وعايشوه، فعن أنس -رضي الله عنه- قال: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا"، وعنه قال: لقد خَدَمْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ قَطُّ، وَمَا قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ، لِمَ صَنَعْتَهُ؟ وَلَا لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ لِمَ تَرَكْتَهُ؟"، ويؤازر هذا ما قالت خديجة -رضي الله عنها- له صلى الله عليه وسلم حين بُعث: ".. أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ"، بل يكفيه صلى الله عليه وسلم وصف ربه لخلقه بالعظيم في قوله عز وجل يخاطبه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
ولقد زرع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى زرعًا في قلوب أصحابه فسألهم يومًا: «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا؛ فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ»، فسوء الخلق مع الناس -أيًّا كانوا مسلمين أو غير مسلمين- يكون سببًا في ضياع الحسنات، والعقاب بالنار يوم القيامة، ولا ينفع هنا صوم ولا صلاة، فإن هذه العبادات -على عِظَمِ قدرها- لا تنفع العبد ما لم تؤثر على سلوكياته وأخلاقه.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَر لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللَّه إِلَّا بُعْدًا»، ويقول أيضًا: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ»، والأحاديث في هذا المعنى لا تنتهي؛ فكان تعامل النبي صلى الله عليه وسلم الراقي مع كل خلق ومبدأ أراد غرسه في نفوس أصحابه فذًّا ورائعًا، فكان صلى الله عليه وسلم الأسوة والقدوة في كل الأمور.
لقد كانت معضلة حقيقية عند كثير من المتعاملين بالسياسة أن تنضبط تعاملاتهم بضوابط الأخلاق، ولكن الدارس للسيرة النبوية يجدها واضحة في كل مواقف السيرة بلا استثناء، وقد أثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ القواعد المثالية الراقية التي جاءت في كتاب الله عز وجل ما هي إلا قواعد عملية قابلة للتطبيق، وأنّها صالحة لتنظيم حياة البشر أجمعين، وأنّها الدليل الواضح لمن أراد الهداية بصدق، كما كانت حياته صلى الله عليه وسلم ترجمة صادقة لكل أمر إلهي، وقد صَدَقَت ووُفِّقت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- في وصف أخلاقه صلى الله عليه وسلم عندما قالت: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ».
لذلك لم يكن مستغرَبًا أن ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو الزعيم الأول في المدينة المنورة، والمحمَّل بالأعباء الجسام- تجده لا يأنف ولا يستنكف أن يمشي مع الأرملة والمسكين؛ فيقضي لهما حاجتهما، إنّ الأولويات لتتغير تمامًا إذا دخل العامل الأخلاقي في الحساب.
إن الإسلام لم يأت لكسر الأصنام فقط، وإن كان هذا من أجلِّ مهام الإسلام وأعظمها، ولكنه جاء كذلك ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن براثن العمى والجاهلية إلى سعادة الهدى والخير، وليست الجاهلية في عين رسول الله صلى الله عليه وسلم هي السجود للأصنام، أو عبادة الشجر والحجر فقط، وإنما هي أيضًا سوء الأخلاق وانهيار القيم؛ لذلك أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على صاحبه أبي ذر -رضي الله عنه- لما عيَّر بلالا صلى الله عليه وسلم بأمه، وقال له: يا ابن السوداء؛ فاعتبر ذلك من الجاهلية، وقال له: «إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ»، ولما ظهرت بوادر صراع بين المهاجرين والأنصار سمَّى رسول الله ذلك جاهليةً، فقال لأصحابه وهو يعدِّل لهم الموازين: «مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟» قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: كَسَعَ(4) رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ»، وكذلك عندما أوشك صراعٌ أنّ يبدأ بين الأوس والخزرج قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، اللّهَ اللّهَ، أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ بَعْدَ أَنْ هَدَاكُمُ اللّهُ لِلْإِسْلَامِ وَأَكْرَمَكُمْ بِهِ، وَقَطَعَ بِهِ عَنْكُمْ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَاسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِنَ الْكُفْرِ، وَأَلّفَ بِهِ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ»، وهكذا كان ينظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حقائق الأشياء، إنّ الجاهلية لم تكن جاهلية لاختلال الجوانب العقائدية فيها فقط، بل كانت جاهلية كذلك لشيوع مساوئ الأخلاق، ورذائل العادات والتقاليد.
إنّ الله عز وجل لم يجعل خيرية هذه الأمة مقرونة بإيمانها به سبحانه فقط، وإنّ كان هذا من أعظم أسباب خيريتها، ولكن جعلها في الأساس مرتبطة بأداء الدور الأخلاقي المنوط بها، والوصول بهذا الدور إلى الناس أجمعين، في بلاد المسلمين وفي غيرها. قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ..} [آل عمران: 110]، لقد قدَّم الله عز وجل قضية الأمر بالمعروف، وهو كل حسنٍ من الأخلاق، والنهي عن المنكر، وهو كل سيءٍ من الأخلاق، على قضية الإيمان بالله سبحانه! أليس في هذا لفت نظرٍ للمسلمين لهذه القضية المحورية في أصول هذه الأمة ودعائم قيامها؟!
لقد قصر النبي صلى الله عليه وسلم بعثته - كما تبيَّن لنا- على إتمام مكارم الأخلاق، وفي الوقت نفسه نفهم أنّ الإسلام جاء ليقيم دولة عظيمة، وصرحًا مجيدًا، وحضارةً خالدة على مر التاريخ، فأصبح هذا يقتضي -بلا أدنى ريب- أنّ يكون الخلق الرفيع هو أساس هذا الصرح؛ ومن هنا فالدعوة إلى مكارم الأخلاق ليست من أجل تكثير الحسنات فحسب، بل هي المدخل الرئيس لبناء أمة قوية ظافرة تقتدي بها الأمم الأخرى، وتسير على هداها، كما أنّ غياب هذه الأخلاق هو غيابٌ للأساس الذي بدونه ينقضُّ البناء ويتهدم، ولهذا نجد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما فكَّر في بناء أمته استعان أول ما استعان بأصحاب الأخلاق الحميدة، والخلال النبيلة، حتى وإن كانوا يعبدون الأصنام في فترة من فترات حياتهم، فنجد أوائل المسلمين هم أبو بكر وعثمان وزيد بن حارثة وخديجة وعلي -رضي الله عنهم أجمعين-، وهم جميعًا عُرِفوا في أقوامهم بحسن العشرة، وطيب النفس، وجمال الخُلُق. ثم جاء من بعدهم قومٌ كرام آخرون أمثال أبي عبيدة وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وغيرهم وغيرهم رضي الله عنهم وأرضاهم، إنّها ليست مصادفة أبدًا أن يكون البناء على أكتاف أصحاب الأخلاق السوية، والخصال الرفيعة، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عبَّر عن ذلك بقوله الحكيم الذي يكشف فيه إستراتيجيته في الانتقاء والاختيار، يقول الرسول الحكيم صلى الله عليه وسلم: «تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا»، ألا ما أحكمها من رؤية، وما أعظمها من نظرة!! ولعله من هنا استوحى أمير الشعراء أحمد شوقي بيته الشهير الموفَّق:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
والتجوال في تاريخ الأمم يثبت صحة هذه النظرة؛ فكلما ازدهرت الأخلاق في عصر ارتفع شأن هذه الأمة، وذلك ما رأيناه في عهد الصديق أبي بكر، والفاروق عمر -رضي الله عنهم-؛ فانتقلت الأمة من نصرٍ إلى نصر، وتوسعت فصارت حدودها تملأ ما بين المشرق والمغرب، وعندما شُغِل المسلمون بأنفسهم، وحدثت بينهم الصراعات والانقسامات ضعفت شوكتهم، وقلَّت حيلتهم.
والمراجع لكل مراحل الازدهار في تاريخنا سيجد أن المجدِّد الذي أصلح اللهُ على يديه حالَ الأمة كان مُهْتمًا كل الاهتمام بعنصر الأخلاق في بناء أمته، ويكفي أن تراجعوا سِيَرَ المجدِّدين من أمثال عمر بن عبد العزيز وهارون الرشيد وعبد الرحمن الناصر ومحمود الغزنوي ونور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي ويوسف بن تاشفين وسيف الدين قطز ومحمد الفاتح وغيرهم، إنّ هذه حقائق لا خُلْف لها، ولا استثناء فيها.
وعلى الناحية الأخرى عندما ضُيعت الأخلاق وانتشر المجون في أواخر الدولة العباسية وقعت الأمة الإسلامية تحت أقدام التتار، ونالت الأندلس ذات المصير أيام سقوطها، بعد فساد أهلها وأمرائها، بل إنّ العجيب أنّ هذه السُنَّة ليست قاصرة على المسلمين، بل هي عامة على جميع الأمم؛ فالدولة الرومانية لم تسقط إلا حينما انهارت فيها الأخلاق، وحديثًا سقط الاتحاد السوفيتي لانتشار الإباحية والفساد المالي والإداري، ولعل غياب موازين العدالة والقيم الأخلاقية الرفيعة في المجتمع الغربي الآن ينذر بانهياره قريبًا.
إنّه يجدر بنا ألا نغادر هذا المقام إلا وكلمات أعظم البشر في آذاننا وقلوبنا وعقولنا، يُوسِّع فيها من مفاهيمنا عن العمل الصالح والعبادة المتقبَّلة. يقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: «تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُكَ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلَالِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَبَصَرُكَ لِلرَّجُلِ الرَّدِيءِ الْبَصَرِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَتُكَ الْحَجَرَ وَالشَّوْكَةَ وَالْعَظْمَ عَنِ الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ».
ألا حقًّا ما أعظم هذا الدين!!
المصدر: كتاب (أخلاق الحروب في السنة النبوية) للدكتور راغب السرجاني.
(1) حجة الإسلام زين الدين أبو حامد الطوسي الشافعي، ولد عام450 هـ بالطابران، عمل بطوس ثم نيسابور، ودرَّس في النظامية، ثم تركها وسلك طريق الزهد والعزلة، ثم عاد إلى نيسابور ولزم التدريس. من مصنفاته المستصفى في أصول الفقه، وإحياء علوم الدين. توفي في 550 هـ بالطابران. الوافي بالوفيات 1/120.
(2) الغزالي: إحياء علوم الدين 2/269.
(3) الغزالي: خلق المسلم، المقدمة ص15.
(4) الكسع: هو ضرب دبر غيره بيده أو رجله. وقيل: هو ضرب العجز بالقدم.