سوق اللصوص"، أو ما كان يعرف في القرن الثامن عشر بمكان للتجارة المسروقة والمشروعة آنذاك. في هذا السوق الشعبي الصغير والمزدحم الواقع في زاوية من أرقى أحياء شمال العاصمة البريطانية لندن، كان الشخص في الماضي البعيد، يعثر على ما سرق منه يباع علناً، وإذا ما أراد استرجاعه، فعليه بشرائه من السارق نفسه بالثمن المتفق عليه، ودون اللجوء إلى رجال الأمن، لأن الشرطة ببساطة لم تكن مخولة بالتدخل آنذاك.
أَسًسَ لصوصُ التحف الفضية والذهبية وقطع الأثاث والمنحوتات غالية الثمن هذا السوق بشكل عشوائي عام 1855، لبيع بضائعهم المسروقة دون خوف من أن يتم القبض عليهم، شرط إتمام صفقاتهم قبيل طلوع الفجر.
تغير الزمن وتغيرت القوانين ولم يعد هناك وجود لصفقات "تحت الطاولة"، لكن الوقت الأفضل للاستمتاع بفرص شرائية وتحف نادرة وعالية الجودة والقيمة ما زال في ساعات الصباح الأولى. ليس هذا ما تغير فحسب في هذا السوق، بل تغير اسمه أيضا ليصبح "سوق برموندسي"، Bermondsey Market، أو سوق كاليدونيا الجديدة، بعدما بات من أشهر الأسواق الشعبية المعروفة لدى الباحثين ومقتني التحف والحلي القديمة. هذا السوق، والذي تحول إلى تظاهرة أسبوعية، يفتح أبوابه كل يوم جمعة من الساعة السادسة صباحا وحتى الساعة الثانية ظهراً. وهو واحد من الأسواق القليلة في لندن الذي يحرص تجاره على بيع التحف الأصلية، كما أن غالبيتهم خبراء حقيقيون في معرفة التحف الجيدة، فهم معروفون في تقديم المشورة الصادقة بعيدا عن الضغط والتأثير لبيع بضاعتهم.
وسط الزحام وبين الأكشاش الصغيرة تجلس امرأة في عقدها الثامن، ترتب بضاعتها بعد أن بعثرها أحد المشترين، لم تتذمر، وبابتسامة جميلة برز ما رسمه الزمن من علامات على وجهها الوردي، تقول لـ "العربي الجديد": "أنا مارتا لويدز، ويمكنكم أن تنادوني بـ "نانا" كما يفعل كل الباعة هنا، فأنا جدة برموندسي". ثم بدأت في سرد وقائع حياتها قائلة: "أنا أسافر إلى هنا تقريبا كل يوم جمعة في الساعة الرابعة والنصف، من مدينة ويلز، حيث أسكن مع زوجي وحيث نملك محلا للتحف النادرة. بدأت رحلتي إلى هذا السوق منذ 52 عاما، وبدأ عشقي لبيع التحف وانتقائها عندما كنت أرافق أبي إلى هنا وإلى أماكن أخرى أيضاً حين كنت صغيرة بالرغم من البرد والظلام أحيانا. كنا نصل إلى هنا الساعة الرابعة صباحا لانتقاء أفضل الأماكن، وكان حينها يبدأ التداول في الساعة الخامسة صباحا. نعم أنا الآن وفي عمري هذا لازلت أقف في أكبر المزادات العالمية في لندن، وأسافر شمالا وغربا في المملكة لشراء البضاعة إذا كانت تستحق".
مارتا لويدز هي الآن واحدة من أهم المتخصصين في بيع التحف النادرة في بريطانيا، وكثيرا ما يستعين برأيها كبار تجار التحف في كل أنحاء بريطانيا.
في هذا السوق الصغير والصامت حيث لا وجود لعازف أو آله موسيقى صاخبة أو حتى كشك لمأكولات سريعة، كباقي الأسواق الشعبية اللندنية، يمكن للمشتري في كثير من الأحيان أن يعثر على كنوز مخبأة غالية الثمن أو القطع والحلي القديمة الرخيصة والأكسسوارات المنزلية. ولعل الجائزة الكبرى في تاريخ السوق كانت العثور على أحفور لسلحفاة يعود تاريخه لمئات آلاف السنين.
روبرت هانس، هو أحد أصحاب الأكشاك التي تبيع الملاعق والسكاكين الفضية، قال لـ "العربي الجديد" "ليس من السهل علينا إيجاد تحف جيدة فعلينا تمضية أيام في التجوال على باقي الأسواق والمحلات لإيجاد ما نبيعه يوم الجمعة، وفي غالب الأحيان لا نأتي ما لم يكن لدينا بضاعة كافية".
وليس بعيداً عن كشك روبرت في هذه الساحة، تنتشر الأكشاك التي تحتوي على كل أنواع البضائع القديمة والتاريخية، والقيّمة، لكل منها قصة فريدة، يتوافد إليها الزوار من العابرين وتجار الأثاث المستعمل من كل أنحاء المملكة وأحيانا من خارجها، آملين في إيجاد تحف من عهد الملكة فكتوريا أو قطع أثاث كلاسيكية من الزمن الماضي أو لوحة لمايكل أنجيلو أو بيكاسو أو فان غوخ أو دافينشي، أو ربما آلة تصوير قديمة بيعت بـ 350 ألف جنيه استرليني، بعدما اشتراها أحد الهواة بـ 15 جنيهاً استرلينياً، أو ربما أيضا أدوات ذهبية منزلية كتب عليها اسم الملك آرثر وحفظت بعدها في المتحف البريطاني.