ما أجمل الطفولة، وما أعذب البراءة في وجوه الأطفال والعفوية في سلوكياتهم. فهم الفطرة النقية، والصفحة البيضاء التي بعذوبتها ننسى متاعب الحياة. كما أن الطفولة بداية حياة الإنسان ومحط ذكرياته وخبراته، لذلك فهي من الأهمية بمكان أن تكون أهم محطات الحياة للإنسان. لكن مع الأسف لم تعد نقية كالسابق. فكما يتلوث الماء العذب بما يُضاف إليه من شوائب. تتلوث الطفولة بما تُضيفها التربية إليها؛ حتى بدت الطفولة في عصر التقدم طفولة لا تخلو من الشوائب التي تعكر صفاءها، فلم نعد نستمتع كالسابق بأطفال أبرياء سلوكاً ومظهراً.
ومن العجيب أننا لازلنا ننتقد ضياع الطفولة في تسول الأطفال، أو حتى عملهم نتيجة قسوة الظروف الاقتصادية أو الأسرية، ولم نلتفت لتضييعنا لطفولة أبنائنا بأيدينا؛ بإغراقهم باحتياجات لم يُدركوها وليسوا بحاجة لها؛ ليُصبحوا نسخة مصغرة من صورة الكبار. فنرى على وجوه فتيات صغيرات من أدوات الزينة، ما يجعل منهن صورة مصغرة ممن تفصلهن عنهن جيل بأكمله؛ حتى لا نكاد نلمح في وجوههن البراءة والعفوية في سلوكياتهن. وتكتمل الصورة بارتدائهن ملابس لا تتناسب مع طفولتهن ومرحلتهن العمرية، وما يتناسب معها من حركة وألعاب. فضلاً عن مجانبتهن للملابس التي تحفظ طفولتهن، وتصون حياءهن؛ حتى أصبحت احتياجات أمهاتهن وما تهتم به الكبيرات من أولوياتهن وضمن نطاقهن الفكري!
ولم يتوقف التشوه فقط على نطاق المظهر. بل تجاوز ذلك؛ ليتخلل عقول الصغار بأن يُترك الأبناء بصحبة أجهزة، يبحرون من خلالها في عوالم فكرية وأخلاقية مختلفة، تقتل ذواتهم البريئة، وتحل التلوث في أفكارهم وسلوكياتهم. دون أن يدرك الوالدان أنهما أحوج لتنمية قدرات الأبناء الفكرية والحركية من مُجارات الكبار بأجهزة تخترق طفولتهم، وتعبث بها دون توجيه والدي من ناحية كيف يستفيدون من التقنية في نفعهم وتعليمهم، وتقنين الجانب المظلم للتقنية عليهم. فضلاً عن إحاطتهم بالأجهزة، بدلا من الألعاب التي تنمي عقولهم، فلكل طفل لم يتجاوز سن المدرسة جهازه الخاص، ليصور ويلعب ويشاهد ما يختاره بكل حرية. وبعدها يقف الوالدان بدهشة ويتساءلون: من أين تعلم طفلي سلوكيات سلبية، بعيدة كل البعد عن نهج الطفولة، بل هي أبعد ما يكون عن النهج الخلقي!
وفي صورة أخرى: يُعلم الوالدان الطفل ما يقوله، وما يفعله أمام الكاميرا؛ ليتباهى به الوالدان في مواقع التواصل. فلديهم طفل جميل ذكي ومشهور أيضاً، يستطيع أن يقوم بسلوكيات تفوق سنه، ويتحدث بطريقة تجعله أقرب لعالم الكبار من عالم طفولته.
فمجمل سلوكيات الآباء مع أبنائهم، والتي تعيق النمو النفسي لطفولتهم، إنما هي ضمن إطار التباهي بهم، أو التدليل المفرط للأطفال. والتي يندفع لها الوالدان كإشباع بديل عن الإشباع العاطفي والذي من المفترض أن يكون ركيزة أساسية في المنظومة التربوية. لكن مع الأسف يتم استبداله بإشباعات مادية تعمل على إفساد عقولهم ليواكبوا التقدم. أو من خلال إشباع احتياجات تضر أجسادهم. كأن يغرقوهم بمتطلبات ومعطيات غذائية غير مفيدة لإمتاعهم بها؛ تتسبب لهم في سمنة بدنية، تعيق حركتهم ونشاطهم، وتؤثر على صحتهم الجسدية، وتظهرهم بمظهر الكبار في أحجامهم وثقل حركتهم. في صورة تختلف عن صورة الطفل في أذهاننا، والتي تتميز بالحيوية والنشاط لتتبدل بالخمول والكسل.
وقد يحرص الوالدان على الاحتياجات النفسية للأبناء، لكن أيضاً بطريقة الإغراق، فبدلاً من التشجيع على السلوك الإيجابي. يعمد الوالدان للمدح والتغني بذوات الأطفال في كل وقت بسبب أو بدون سبب، ليصلا بهم إلى السمنة النفسية، أو بعبارة أخرى النرجسية. والتي ينشأ الطفل في أحضانها؛ ليعتقد أنه الأفضل والأجدر، ويستحق المزيد فلا يتقبل غيره من الأطفال. فهو الأفضل على الإطلاق. بل وحتى نظرته للكبار تغيرت، فلم نعد نلمح فيها احترام وتوقير الكبير. فنراه يجلس في مجالس الكبار رافع الرأس، منتصب القامة، يرسم حركاته وسكناته، ويتنقل بنظراته بين الحضور باستعلاء. وكان الأجدر على الوالدين تعزيز سلوكيات أبنائهم الإيجابية بالتشجيع المستمر، لا مدح ذواتهم بشكل مستمر. فالفصل بين السلوك والذات أهم دعائم التربية السليمة سواء في التعزيز أو العقاب؛ حماية لذاته عن أي مستجدات سلوكية، قد تتغير سلباً أو إيجاباً. فمن حقه أن يستشعر المحبة دائماً أياً كان سلوكه. غير أن الإطراء لابد أن يكون بقدر دون إفراط. وكذلك من حقه التعزيز المتنوع في كل وقت وزمان ومكان؛ ليستمر سلوكه في الاتجاه الصحيح لكن بقدر مناسب أيضاً.
فنحن بحاجة لترميم ما تبقى من الطفولة في أطفالنا؛ لنستعيد الصورة النقية لها، والابتسامة العفوية الصافية التي لا ترسمها كاميرات التصوير. فلن نستعيد براءة أطفالنا إلا بتجنيبهم شوائب الحضارة. والإغراق الزائد مادياً وعاطفياً. وشيء من أحلامنا وتطلعاتنا الدنيوية فضلاً عن اللمسات الكبيرة والمتكلفة في المظهر والسلوك على ذرات طفولة أبنائنا البريئة.