رآها فانجذب إليها، وانجذبت إليه، ووافق كل منهما أن يكون شريك الآخر، فيما تبقى له من عمره، شراكة دائمة أساسها متين، وميثاقها غليظ. وتمت الخطبة، وعاشا أجمل لحظات حياتهما، ذاقا معًا طعمًا مختلفًا للسعادة، ورأيا معًا الوجه البراق لهذه الحياة الدنيا، كانا من فرط سعادتهما كالطائر المحلق في السماء.
وبعد مدة تم العقد، ومن ثم الزواج، وبعد العقد الشرعي حيث تزال حواجز كثيرة، تتكشف النفس بحكم فطرتها التي فطرها الله عليها، فما كان يتجمَّل به الإنسان أيام الخطبة، لا يستطيع التجمل به طوال عمره، فلا بد من التكشف، وظهور النفس متجردة تمامًا، مما كانت تتجمل به من قبل، وهنا تكون مرحلة التصادم، حيث تصطدم طبيعتان مختلفتان، حتى وإن ظنا أنهما متشابهتان في نقاط كثيرة؛ والاختلاف سنة الله في خلقه. وهذه المرحلة هي أخطر ما يمر بها الزوجان في بداية حياتهما الزوجية، يدفعان فيها تكاليف باهظة من الصحة والوقت.
وللأزواج في مرحلة التصادم هذه حالات مختلفة، فترى بعضهم يقدِّر كلٌّ منهما للآخر اختلاف الطبائع والمشاعر والقيم، وهذا الصنف من الناس قليل؛ نظرًا لعدم وجود تأهيل فعلي للشباب قبل الزواج، ولعدم مساندة الأهل المعنوية للزوجين في بداية حياتهما. وهذا الصنف من الأزواج يكون أحدهما أو كلاهما معًا ذا ثقافة واسعة، وعلى قدر كبير من الوعي الذي يتيح له فهم الآخرين بسهولة. فترى الاحترام أساس علاقته بشريك حياته، وتراه حريصًا على ديمومة القرب والبقاء بجانب شريكه، محاولًا الانسجام والتناغم، ويتغير للأفضل ليرضي شريك حياته؛ فيصل بسرعة إلى مرحلة النضج والاستقرار، والتي تكون نتيجتها بيت مستقر يعيش بين جنباته زوجان محبان ومخلصان يقدران ذلك الميثاق الغليظ الذي يربطهما حق قدره، ويحرصان على الانسجام وتقبل شريك الحياة بعيوبه قبل مميزاته.
وهناك صنف آخر عكس الأول تمامًا، لا يستطيع أن يتقبل اختلاف شريك حياته عنه، فلا يتقبل -أحدهما أو كلاهما معًا- طبائع الآخر وعيوبه، ويخفق كثيرًا في احتواء وفهم شريك الحياة، ويصطدم بعد الزواج بشخصية مختلفة تمامًا عن تلك التي أحبها؛ فيشعر وكأنه خدع فيمن أحب، وربما يقابله شريكه بالمشاعر نفسها، فيحدث تنافر شديد بينهما، ويكون وقع صدمات الاختلاف عنيفة عليهما، وفي حالات كثيرة تكون حدة هذه الصدمات وهذا التنافر شديدة، فيقرر غالبية الأزواج من هذا النوع الانفصال؛ إذ لا معنى لحياة تضج بالمنغصات مع شريك لا يقدِّرني ولا يستطيع احترام اختلافي عنه، ولا يحاول فهمي. وسبب الإخفاق الرئيس في هذا الزواج هو اختلاف القلوب والأفهام الناتج عن الأنانية المفرطة التي يتعامل بها الطرفان، فلا يستطيع أحدهما أن يضع نفسه مكان الآخر، ولا أن يفكر بعقله، أو يشعر بمشاعره؛ فيخفق في فهمه الفهم الصحيح، وبالتالي يخفق تمامًا في الانسجام معه، والتعايش مع عيوبه، وترى كلًّا منهما يحدث نفسه كثيرًا بأن اختياره كان خطأً، وكان يستحق أفضل من هذا الشخص، وسبحان من شرع الطلاق في ديننا الحنيف؛ لتكون فيه حياة لقلبين أُنهكا من شدة الاختلاف بينهما وعدم التقبل الروحي بينهما، حيث كان الاختيار من الأساس خطأ؛ لوهمٍ أصاب أحد الطرفين أو كلاهما؛ إما لعدم نضجه النضج الكافي ليعرف كيف يتحكم بمشاعره، وإما لضعف في قلبه وشخصيته يجعلان رؤيته لحقيقة الأمور مضطربة ولا وضوح فيها، وكلها أقدار الله تجري علينا لحكمة يعلمها سبحانه.
أما الصنف الأخير: فهو أن يكون أحد الطرفين محبًّا وحريصًا على البقاء، فيحاول الإصلاح ما استطاع، ويحاول ويحاول، والطرف الآخر يقدِّر محاولاته ويتجاوب معه، وهو الآخر يحاول من جانبه في التقارب والفهم، وكلاهما حاله كحال المتعتع في القراءة، يحاول قراءة شريك حياته وفهمه، فينجح تارة ويخفق أخرى، يتعثر ويقوم ليتابع المسير ولا ييأس، وهذا حال كثير من المتزوجين، ويكون أجر المصلح منهما عظيمًا، فيخفق تارة وينجح أخرى، وصبره على شريك الحياة وجهاده للتغيير لا شك مأجور عليهما، وغالبًا تكلل مجهوداته بالنجاح، فالله لا يضيع أجر من أحسن عملًا، فتراه بعد وقت ليس بطويل يتحقق له الاستقرار والانسجام الذي كان يرجوه ويحلم به أيام الخطوبة.
شرع الله الزواج للاستقرار والاتزان في هذه الحياة، ووصفه بالميثاق الغليظ لثقل أمانته وعظيم مسؤوليته، وجعل الله كل زوجين لباسًا للآخر، كما قال في كتابه العزيز: (هُنَّ لِباسٌ لكم وأنتم لِباسٌ لهنَّ)البقرة 187، ليعلن لهما أن المكاشفة والمصارحة وستر كل منهما لعيوب الآخر، والأمان الذي يجب أن يمنحه كل منهما للآخر، كلها أساس استقرار هذا الزواج؛ فلا ألصق بالإنسان من لِباسه، ولا أستر ولا أأمن له منه. وأي زوجين لا بد وأن يمرا في بداية حياتهما الزوجية بمطبات ومنعطفات قد تكون خطيرة؛ نظرًا لمحاولة اندماج كيانين مختلفين معًا، لينتجا تلك الروح الواحدة التي تسكن الجسدين. وحديث الذكريات لدى الأزواج الناجحين في حياتهم مليء بالكثير من قصص هذه المطبات وتلك المنعطفات، وقد تسمع أحدهما يتأوه وهو يحكيها، ويتألم من مجرد ذكراها، إلا أنه في نهاية حديثه يبتسم، وتستخلص من كلامه أن هذه المنعطفات كان لا بد منها لفهم شريك الحياة ومن ثمَّ الاندماج التام معه.
فلا يبتئس حديث عهدٍ بزواج بما يلاقي من معاناة في محاولة فهم نصفه الآخر، وليحاول قدر استطاعته توسيع مداركه وزيادة وعيه، وسدَّ ما لديه من خلل في ثقافته التي اكتسبها رغمًا عنه من مناهج تعليمية عقيمة، أو مواد إعلامية مدمِّرة وخداعة، وليذهب إلى المقالات المفيدة والكتب التي تهتم بالتأهيل الفعلي للشباب، والكتب التي تشرح كيف يكتسب الإنسان الذكاء العاطفي؛ ليفهم الحياة على حقيقتها، وليدرك اختلاف الطبائع البشرية، وليكتسب ذلك الذكاء العاطفي الذي يجب أن يكون لينجح في علاقته الدائمة مع شريك حياته، الذي اختاره له قلبه ووافق عليه عقله، ومالت إليه نفسه، التي كانت تتعطش لمن يحبها وتحبه، وتسكن إليه ويسكن إليها.