منذ ملايين السنين
جوانا كلاين joanna klein / ترجمة / أنيس الصفار
اعتدنا نحن البشر ان نعتبر انفسنا اذكى المخلوقات .. والسبب هو اننا ابتكرنا الزراعة، ولكن حقيقة الأمر هي اننا لسنا من ابتكرها. فقبل ملايين السنين، وفي احدى الغابات المطرية في اميركا الجنوبية، توصلت نملة صغيرة جداً لا يكاد يزيد حجم دماغها على حجم رأس الدبوس الى هذا الاكتشاف. بدأت هذه النملة بزراعة الفطر واستخدامه كغذاء .
يعيش اليوم ما يقارب 250 نوعاً من النمل في الغابات الاستوائية والصحارى والسهوب المعشبة في انحاء شتى من الاميركيتين، وهذه الانواع تمارس الزراعة في حديقة مخصصة للفطريات على شكل حجرات تحت التربة في اجواء مسيطر عليها من حيث الحرارة
والرطوبة.
هناك يقوم النمل بازالة الادغال من حديقته ويسقيها بالماء، بل ان بعض الانواع تستخدم المضادات الحيوية أو المواد الكيمياوية للتخلص من البكتيريا الضارة وابعادها عن محصوله. ومن خلال دراسة نشرت مؤخراً في دورية «وقائع الجمعية الملكية» عكف العلماء على تتبع التاريخ التطوري لهذه النمال وكيف تحولت عبر ملايين السنين الى زراع فطر
متطورين.
يقول عالم الحشرات «تيد شولتز»، وهو من متحف سمثسونيان الوطني للتاريخ الطبيعي والباحث الرئيسي في الدراسة: «لو كان بصرك نافذاً مثل اشعة أكس ثم نظرت تحت تربة غابات العالم الجديد الاستوائية الرطبة تلك لرأيت حدائقاً على شكل حجرات متناثرة في كل مكان.»
قام الدكتور شولتز وفريق الباحثين الذين معه بمقارنة الخرائط الجينية لـ 78 نوعاً من النمل الزارع للفطر ومن بينها النمل قاطع الاوراق، بالاضافة الى 41 نوعاً من النمل الذي لا يزرع، ومن المقارنة توصل الفريق الى اكتشاف انماط مثيرة للاهتمام. وجد الباحثون ان انواع النمل زارع الفطر ربما تكون قد انحدرت من السلف ذاته الذي كان يعيش في غابات اميركا الجنوبية قبل نحو 60 مليون سنة، ولكن نوعين فقط من مجموعة النمل الزارع انفصلت بعد مرور 30 مليون
سنة.
يضم النوع الاول النمل الزارع الاعلى تطوراً وتعقيداً، والذي ربما يكون قد حمل فطره معه اثناء انتقاله الى المناطق الجافة او تلك التي تشهد مواسم جفاف مؤقتة، مثل الصحارى وسهول السفانا المعشبة. هناك اخذوا يرعون محصولهم في حدائق تحت الارض استمرت بالتطور هي الاخرى بخط موازي الى ان فقد الفطر استقلاله واصبح معتمداً بالكامل على زارعه.
النوع الثاني كان مؤلفاً من زراع ادنى مهارة واقل تطوراً وهؤلاء تركز وجودهم اساساً في الغابات الاستوائية. هذا النوع من النمل زرع نوعاً من الفطر الذي لم يفقد قدرته على تخطي حدود حديقته والعيش
مستقلاً.
يعتقد الدكتور شولتز أنه بعد مرور فترة كافية من الزمن تمكن المناخ الجاف من خلق ظروف مثالية مناسبة للنمل الزارع الاكثر تطوراً كي يدجن الفطر بالسيطرة على درجات الحرارة، من خلال حفر الحجرات عند اعماق اكبر، والمحافظة على الرطوبة بجلب الماء من الفواكه والنباتات وندى الصباح. يقول شولتز: «هم يزرعون محصولهم من الفطر في حجرات اشبه بالبيوت الزجاجية، وعندما تكون البيئة الخارجية جافة يتقيد الفطر ولا يعود قادراً على الافلات لأنه لن يجد مكاناً يمتد
اليه.»
يعتقد الدكتور شولتز اننا نستطيع ان نستلهم درساً من هذه الطرق الزراعية التي تفتقت عنها عقول النمل الزارع. فحديقة الفطر التي ينشئها النمل تعد من اساليب الزراعة الاحادية، اي التي تركز على انتاج محصول واحد فقط، ولكن النمل قادر رغم هذا على ادامتها لمدة 15 أو 20 سنة. يقوم النمل باجتثاث انواع الفطر الدخيلة التي تحاول التطفل على محصوله والتغذي عليه او قد تقتلها المواد الكيمياوية التي يفرزها الفطر المحصول نفسه.
صحيفة نيويورك تايمز