بنقريش.. البلدة التي تحولت من زهرة يانعة زمن الحماية الإسبانية إلى مجرد وردة ذابلة زمن الاستقلال
“بن قرّيش”، أو “بنقرّيش”.. ليست قرية وليست مدينة، إنها ما يشبه بلدة مختفية في قلب جبل غير بعيد عن الشقيقة الكبرى تطوان، في الطريق المؤدية إلى شفشاون وجبل العلم، حيث ضريح الولي الصالح مولاي عبد السلام بن مشيش.
وحسب المؤرخين فإن إعمار “بن قرّيش” تم عبر مراحل تاريخية متلاحقة، وأغلب الذين استوطنوا المكان جاؤوا من قبيلة بني زروال، أيام كان المخزن المغربي يعمد إلى تعمير المناطق الساحلية أو القريبة من الشواطئ الشمالية من أجل أهداف دفاعية محضة، حيث كان السكان يقومون بأدوار الدفاع الوطني، أو الجهاد، من تلقاء أنفسهم، ومن دون تدخل العساكر الرسميين في كثير من الأحيان.
وفيما يخص التسمية، فهناك روايتان، الأولى شعبية والثانية متواترة تاريخيا، وبين التسميتين بوْن كبير. وتقول الرواية الشعبية، إن مصدر تسمية بلدة “بن قرّيش” هو لقب لشخص فقير استقر بالمنطقة هو وأسرته، وبعد فترة من الزمن تحسنت أحواله المادية وأصبح يقال عنه باللهجة الجبلية المحلية إن فلان “أَقَا الرِيشْ” أي أصبح ميسور الحال بعد سوء حال، وأطلق على أولاده اسم “ابن قّا الريش”، ومكان إقامة أسرته دار ابن قرّيش.
أما الرواية التاريخية المتواترة، حسب بعض المراجع التاريخية، فتتحدث عن ارتباط إسم بن قريش بأسرة تحمل نفس الإسم استقرت بالمنطقة قادمة من الصحراء المغربية، ثم هاجر بعض أفرادها إلى تطوان طلبا للعلم، واشتغل بعضهم بالتدريس والقضاء، وبعد ذلك أسس أفراد تلك الأسرة العالمة زاوية صوفية تحمل اسمها، ولا يزال مقرها موجودا إلى اليوم حيث يوجد مقرها في حي “الوطية”.
وجاء في كتاب “تاريخ تطوان” للفقيه المؤرخ محمد داود “بن قريش أو بنقريش قرية في قبيلة بني حزمر المعروفة ببني يجم، وهي من تأسيس أسرة أولاد ابن قريش الشريفة التي هاجرت من الساقية الحمراء في القرن التاسع الهجري، وربما كانت تعد عاصمة لقبيلة بني حزمر عام 1050هـ.
وتنتمي قرية دار بن قرّيش إلى قبيلة بني حُزْمر، التي اشتهرت في التاريخ للحديث بمقاومتها للاستعمار الإسباني. وقد كانت مركزا للمقاومة الحزمرية وقبائل أخرى، حيث تأسس بها في 29 مارس 1913 رباط لجهاد المستعمر عرف تاريخيا بـ”رباط دار بنقريش”، وقد اصطدم الاستعمار الإسباني بمواجهة بطولية من طرف هذا الرباط الذي تحول إلى منطلق للهجوم على ثكناته العسكرية الموجودة بمدينة تطوان وأطرافها، و بعد السيطرة عليه في 25 يونيو 1920، وبفضل موقعه الاستراتيجي المشرف على باقي المناطق وعلى الطرق المؤدية إلى تطوان وشفشاون وجبل العلم، تحول “مركز دار بن قريش” إلى موقع عسكري للإسبان، الذين أنشأوا فيه مجموعة من المرافق الإدارية والخدماتية، كمستشفى الأمراض الصدرية الذي مازال يقدم بعض خدماته إلى حد الآن، ومدرسة عصرية ومكتب للبريد ومجموعة من الحدائق الجميلة، وكذلك بعض المنازل التي ما زالت تشهد على تلك الفترة الهامة من تاريخ هذه المنطقة.
الحال والمآل
تحولت بلدة بنقريش في زمن الحماية الإسبانية إلى نسخة مصغرة من أختها الكبيرة تطوان، وتناسلت فيها الكثير من الحدائق الجميلة والبنيات العصرية والمرافق الإدارية والمراكز العسكرية، غير أن أهم مرفق تم تشييده في هذه البلدة هو مستشفى الأمراض الصدرية، والذي كان يستقبل عددا كبيرا من المرضى بداء السل، بمن فيهم القادمون من مناطق أخرى.
مستشفى بنقريش للأمراض الصدرية تم تشيده في زمن لم تكن فيه أغلب المدن الكبرى بالمغرب تتوفر حتى على مستشفيات عادية، فبالأحرى على مستشفى كبير مختص يستقبل المئات من المرضى يوميا.
هذا المستشفى الذي تم تشيده سنة 1946 لم يكن مجرد معلمة صحية فقط في زمن الاستعمار، بل كان أيضا معلمة معمارية وحضارية فريدة بمرافقه المتعددة وفضاءاته التي كانت تجعله واحدا من أفضل مستشفيات المغرب كله.
ففي بداية افتتاح هذا المستشفى في الأربعينات كانت طاقته الاستيعابية تفوق ثلاثمائة سرير موزعة على طوابقه الثلاثة، وكانت الخدمات المقدمة فيه تضاهي الخدمات المقدمة في أجود المستشفيات الأوربية، لكن مع مرور الزمن، والزمن هنا يعني السنوات التي تلت الاستقلال، صار هذا المستشفى يتحول إلى جدران بلا معنى، وانخفضت قدرته الاستيعابية إلى حوالي مائة سرير، وخلال السنوات الأخيرة لم تبق به سوى بضعة أسرة، وقلت به الموارد البشرية من أطباء وممرضين، وتهالكت أجنحته وغرفه ومرافقه إلى درجة أنها صارت تنهار شيئا فشيئا، أما وجبات الأكل الجيدة التي كانت تقدم للمرضى فانعدمت تماما وتم إغلاق المطبخ وأصبح الجوع سيد المكان، واختفت مصبنته الخاصة وتم اختطاف جهاز الكشف بالأشعة، بل حتى قنوات الصرف الصحي تهالكت واختلطت مع قنوات الماء الشروب، وصارت حديقة المستشفى اليانعة إلى مجرد مزبلة، وتحول المستشفى الذي كان مضرب المثل في الجودة زمن الاستعمار إلى مجرد شبح في زمن الاستقلال.
المقلع الوحش
من غريب الصدف أنه في الوقت الذي توقف، تقريبا، مستشفى الأمراض الصدرية عن العمل، فإن بلدة بنقريش استقبلت النقيض تماما، أي مقلعا للحجارة استفحلت معه الأمراض الصدرية للسكان، الذين كانوا يعيشون زمن الحماية وسط هواء نقي جدا مع مستشفى متطور، واليوم صاروا يعيشون تحت رحمة مقلع متوحش مع مستشفى مقفل. إنها صورة كاريكاتورية.
هكذا خرجت بلدة بنقريش من هدوء الزمن الجميل إلى ضجيج الزمن الرديء، فكانت المقابلة بين المستشفى والمقلع أهم دليل على تغير لم يتوقعه أحد. والمثير أن المنطقة تناسلت فيها المقالع التي صارت تنفث سمومها على الطبيعة والسكان.
بدأت معاناة سكان دار بنقريش مع المقالع منذ سنوات طويلة، وبالتحديد قبل أزيد من عشر سنوات، ومنذ ذلك الوقت ظل السكان يحتجون ويراسلون الجهات المعنية وينظمون وقفات احتجاجية لمناهضة ما أسموه “مافيا المقالع” والمتواطئين معها حيث تعرضت الفرشة المائية بالمنطقة لأضرار كبيرة، وهي المنطقة التي كانت معروفة بمياهها الغزيرة والعذبة، كما تحولت الغابات إلى مكب للغبار والأحجار والنفايات، ومع ذلك لم يتحرك أحد، وعلى رأسهم رئيس جماعة الزينات، الذي يعتبر أول من يشير له السكان بأصابع الاتهام.
وأهم ما يتداوله السكان عن هذه المقالع هو أن صاحب مقلع حصل على تراخيص الاستغلال سنة 2004، بينما نواب الجماعة السلالية “وافقوا” على الاستغلال سنة 2005، أي أن صاحب المقلع حصل على الترخيص قبل موافقة الجماعة السلالية بسنة كاملة، لكن الأدهى من كل هذا هو أن طلب الاستغلال الذي تقدم به صاحب المقلع مؤرخ في سنة 2006 !
اليوم يطالب السكان لجان المراقبة والتفتيش بزيارة هذه المقالع من أجل هدف واحد، وهو الاطلاع على مدى احترامها للمعايير المعمول بها في هذا المجال، وأيضا الاستماع إلى شكاوى السكان والاطلاع على معاناتهم، ومعاينة الأضرار البشرية والبيئة الفظيعة التي تسببت فيها هذه المقالع.
الجرائم المرتكبة في حق الطبيعة بالمنطقة تجاوزت ذلك إلى أفعال مباشرة عبر قطع قرابة ألفي شجرة من أشجار العرعار النادرة، وهي أشجار محمية وطنيا ودوليا، لكن ذلك لم يحرك الجهات الوصية، وعلى رأسها قطاع المياه والغابات.
يأس وتطرف
وسط كل هذه المتاهة فإن بلدة بنقريش صارت اليوم بين مطرق المقالع والفساد وبين سندان اليأس والتطرف. لذا يبدو مؤسفا أن بلدة ببضعة آلاف من السكان لم تعد تختلف عن جارتها الكبرى تطوان أو مناطق مجاورة أخرى في تفريخ متطرفين يائسين مستعدين لارتكاب أية حماقة في أي وقت. وربما تكون بنقريش نموذجا لما تعرفه تطوان وأحوازها بشكل عام، والتي فرخت عددا كبير من المتطرفين الذين التحقوا بتنظيم “داعش” خلال السنوات الأخيرة حيث لم يكونوا سوى حطب في معارك لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
هذا التهميش جعل، أيضا، الكثير من شباب المنطقة ينغمسون في آفة المخدرات، وحين يتحالف التطرف مع المخدرات فإن مظاهر الخلل تكون واضحة، وأيضا العلاج يكون أوضح.