صناعة السجاد اليدويّ في غزّة مهنة قديمة تقاوم الاندثار
في محاولة منهم للمحافظة على مهنة أجدادهم وعلى التراث الفلسطينيّ من الاندثار، تواصل قلّة من الحرفيّين في قطاع غزّة، غزل السجاد التقليديّ اليدويّ، رغم انتشار السجاد المستورد من دول عدّة مثل تركيا وإيران والصين، والذي يتميّز بتنوّع أشكاله وألوانه ونقوشه.
مدينة غزّة: في محاولة منهم للمحافظة على مهنة أجدادهم وعلى التراث الفلسطينيّ من الاندثار، تواصل قلّة من الحرفيّين في قطاع غزّة، غزل السجاد التقليديّ اليدويّ، رغم انتشار السجاد المستورد من دول عدّة مثل تركيا وإيران والصين، والذي يتميّز بتنوّع أشكاله وألوانه ونقوشه.
وارتبط غزل السجاد والبسط اليدويّة بالتراث الفلسطينيّ منذ زمن بعيد، إذ قال الخبير بالتاريخ والتراث في غزّة ناصر اليافاوي لـ"المونيتور": "إنّ غزل النسيج يعدّ من أقدم المهن في فلسطين، حيث دلّت الحفريّات التي اكتشفت في العقود الماضية في فلسطين، على أن الأنوال التي تستخدم في الغزل والنسيج، كانت تستخدم منذ 5000 عام".
وقال الحاج محمود الصوّاف (70 عاماً)، وهو أحد الحرفيّين الذين ما زالوا يعملون في هذه المهنة، ويمتلك محلاًّ خاصّاً ببيع السجاد التقليديّ في حيّ التفّاح - شرق مدينة غزّة، لـ"المونيتور": "إنّ عائلتي تمارس هذه المهنة منذ نحو 400 عام ويزيد. لقد ورثتها عن والدي الذي ورثها عن أجداده، وأنا أعمل في غزل السجاد يدويّاً منذ 60 عاماً".
وأوضح أن الحرفيّين كانوا قبل سبعينيّات القرن الماضي يستوردون صوف الأغنام، الذي يستخدم في صناعة الخيوط الخاصّة بالنسيج من مصر، ثمّ كانوا يمرّرون هذا الصوف بمراحل عدّة، وهي التنظيف من الشوائب، فالتنفيش الذي يعني تحرير كتل الصوف لتبدو مثل الخيوط، ثمّ الغزل، وهو عمليّة تحويل الصوف إلى خيوط طويلة، وأخيراً مرحلة الصبغ الهادفة إلى تلوين هذه الخيوط، وقال: "ولكن بعد سبعينيّات القرن الماضي، أصبح الحرفيّون يستوردون خيوط الصوف الجاهزة من أوروبا، بألوانها المختلفة".
ولفت إلى أنّ استخدام السجاد التقليديّ المحليّ لم يعد مقتصراً على أرضيّات المنازل فقط كما كان في الماضي، إنّما أصبح يعلّق على الجدران وفي صناعة المقتنيات المنزلية لإضفاء التراث عليها.
ويستخدم الحرفيّون آلة النول اليدويّة في صناعة السجاد والبسط. وعن هذه الآلة، تحدّث العامل إياد الصوّاف الذي يعمل مع محمود الصوّاف لـ"المونيتور" فقال: "إنّ النول هو الأداة الرئيسيّة المستخدمة في غزل السجاد، وهو جهاز خشبيّ غير آليّ يحتوي على 400 خيط مصفوف بشكل متوازٍ، وتعلوه قطعة خشبيّة تسمّى بالمشط، وتعمل على تشبيك الخيوط ببعضها بشكل متساوٍ ومتلاصق تماماً دونما إحداث فراغ أبداً. كما يحتوي النول على قطعة خشبيّة أخرى تسمّى بـالمطواية، والتي تعمل على لفّ السجاد".
رغم قلّة الزبائن المتردّدين على محل الصوّاف المكتظّ بأشكال السجاد والبسط والوسائد، إلاّ أنّه قال: لهذا السجاد زبائنه الخاصّون، الذين يفضّلون السجاد المحليّ الممزوج بالتراث عن ذلك المستورد.
وداخل محل الصوّاف، كانت السيّدة منيرة الشامي (52 عاماً) منشغلة في تقليب السجاد بحثاً عن لون معيّن ليتناسب مع الغرفة الخاصّة باستقبال الضيوف في منزلها، وقالت لـ"المونيتور": "إنّ منزلي بأكمله مفروش بالبساط والسجاد اليدويّ التقليديّ، انطلاقاً من أهميّة المحافظة على بقائه حيّاً كجزء من التراث الفلسطينيّ العريق. كما أحاول أن أزرع حب التراث في نفوس أبنائي كونه يشكّل هويتنا".
وفي منزله الكائن بمخيّم البريج - وسط قطاع غزّة، يقضي أبو هاني عامر (46 عاماً) معظم وقته خلف نوله الخشبيّ لصناعة أشكال مختلفة من البسط والسجاد والوسائد، إضافة إلى السجاد التقليديّ، الذي لا يزال يشهد إقبالاً من قبل العائلات البدويّة التي تستخدمه في تزيين بيوتها والأماكن التي تجمع أفراد عائلاتها للبحث في قضايا العائلة، والمعروفة باسم "الديوان".
وقال عامر الذي يحظى بشهرة واسعة في المخيّم لـ"المونيتور": "هذه المهنة تحتاج إلى مهارة ودقّة وفنّ وسرعة عالية في العمل. كما تتطلّب الصبر."
ولفت إلى أنّ "صناعة سجادة تبلغ مساحتها 2×4 أمتار، تتطلّب عملاً متواصلاً لمدّة 10 أيّام بمقدار 8 ساعات عمل يوميّاً"، مشيراً إلى أنّ سعر المتر الواحد من السجاد اليدويّ يبلغ 40 شيقلاً (11 دولاراً)، فيما يبلغ ثمن متر السجاد المستورد من الخارج 30 شيقلاً (نحو 8 دولارات).
وبيّن أنّ غلاء ثمن السجادة اليدويّة عن المستوردة، يعود إلى أسباب عدّة، أهمّها تميّز اليدويّة بإبداع النسج الذي لا تستطيع الصناعة الآليّة إتقانه، وتميّزها أيضاً بالمتانة والصمود لعشرات السنين، فضلاً عن أنّ العمل اليدويّ يُمكّن الزبائن من اختيار الألوان والأشكال والنقوش مسبقاً، وهذا ما لا تتمتّع به الصناعة الآليّة.
وبالنّسبة إلى ناصر اليافاوي، ازدهرت هذه الحرفة تاريخيّاً في مدن فلسطينيّة عدّة، فعلى مرّ العهود كانت مدينتا المجدل وعسقلان الساحليّتانتصنعان السجاد وتصدّرانه إلى أوروبا عبر القوافل التجاريّة المسافرة بحراً. وعقب حدوث النكبة الفلسطينيّة في عام 1948، هاجر أهالي المجدل وعسقلان إلى قطاع غزّة، وهذا أدّى إلى انتشار هذه الحرفة في القطاع.
ولا تتوافر إحصاءات رسميّة عن عدد الحرفيّين المحليّين والعاملين أو عدد ورش نسخ السجاد بالقطاع، إلاّ أنّ محمود الصوّاف يعتقد أنّ في القطاع 4 حرفيّين فقط، يعمل لديهم نحو 25 عاملاً، فيما كان عددهم قبل اتّساع حركة الاستيراد من الخارج بعد ظهور السلطة الفلسطينيّة في الأراضي الفلسطينيّة عام 1994، نحو 500 عامل.
وتواجه صناعة السجاد التقليديّ مشكلة انقطاع التيّار الكهربائيّ. وفي هذا المجال، قال الصوّاف: "رغم أنّ الأنوال لا تعمل على الكهرباء، إلاّ أنّ أزمة انقطاع التيّار الكهربائيّ تعيق إنتاجنا، إذ أنّ انقطاع التيّار لأكثر من 16 ساعة يوميّاً، يجعل العمّال ينصرفون عن العمل عند مغيب الشمس، كون رسم النقوش المختلفة على السجاد يتطلّب تركيزاً عالياً وتوافر الإضاءة بشكل كافٍ".
ويأمل الصوّاف أن يأتي يوم تعود فيه وتنتشر صناعة السجاد التقليديّ اليدويّ وتجارته، كما العهود القديمة قبل أن تتحوّل اليوم إلى رمز تراثيّ. وحتّى تحقيق ذلك، يواصل كفاحه في مقاومة اندثارها.