كمال الدين الدميري (742 - 808هـ = 1341 - 1405م) الفقيه المحدث العبقري، صاحب المؤلفات العلمية الرصينة في التاريخ والأدب والفقه والحديث، والتي منها وأشهرها كتاب "حياة الحيوان الكبرى"، الذى يعد أول مرجع شامل في علم الحيوان باللغة العربية، وقد رتب الدميري الكائنات التى كتب عنها ترتيبا أبجديا.
اسم الدميري ونسبه
هو أبو البقاء كمال الدين محمد بن موسى بن عيسى بن على الدَّمِيريّ الأصل، القاهري، الشافعي، والدميري -بالفتح ثم الكسر- نسبة إلى دَمِيْرَة قرية في الوجه البحري بمصر وهي تابعة لمركز طلخا في محافظة الدقهلية (حاليا). والدليل على نسبته لهذه القرية هو وجود مسجد في هذه القرية باسمه، والمسجد مازال موجودًا إلى الآن.
كان اسمه أولًا كمالًا بغير إضافة، وكان يكتبه كذلك بخطه في كتبه، ثم تسمَّى محمدًا وصار يكشط الأول، وكأنه لتضمنه نوعًا من التزكية مع هجر اسمه الحقيقي.
نشأة الدميري وتعلمه
ولد الدميري بالقاهرة سنة 742هـ / 1341م، وبدء حياته خياطًا حتى اجتذبه العِلم، فالتحق بالأزهر الشريف، وتعلم الأدب والفلسفة والحديث والفقه ودرس على يد مجموعة من كبار علماء مصر، فتفقه على: الشيخ بهاء الدين أحمد السبكي، ولازمه كثيرًا، وانتفع به، والشيخ جمال الدين الأسنوي، والقاضي كمال الدين أبي الفضل النويري المالكي الذي أجازه بالفتيا والتدريس، وبرهان الدين القيراطي الذي أخذ عنه الأدب والعربية. ووصف الدميرى ابن الملقن بشيخنا، وذكر شمس الدين السخاوي أنه أخذ عن البلقيني، وأخذ عن البهاء بن عقيل، وسمع جامع الترمذي على المظفر العطار المصري، وعلى علي بن أحمد العرضي الدمشقي مسند أحمد بن حنبل بفوت يسير، وسمع بالقاهرة من محمد بن علي الحراوي، وغيره؛ وبمكة على الجمال بن عبد المعطي، والكمال محمد بن عمر بن حبيب في آخرين؛ كالعفيف المطري بالمدينة، ومما سمعه على الأول الترمذي في سنة نيف وخمسين وسبعمائة، ووصفه الزيلعي في الطبقة بالفاضل كمال الدين كمال، وعلى ثانيهما فقط جل مسند أحمد أو جميعه وجزء الأنصاري.
الدميري الفقيه المحدث المفسر
برع الكمال الدميري في التفسير، والحديث، والفقه، وأصوله، والعربية، والأدب، وغيرها وأذن له بالإفتاء والتدريس، وتصدى للإقراء فانتفع به جماعة، وأصبح من فقهاء الشافعية، وقال الشعر، ودرَّس في عدة أماكن، فقد حدث بالقاهرة، وسمع منه الفاسي فيها، وأفتى ودرس بأماكن بالقاهرة منها جامع الأزهر، وكانت له فيه حلقة يشغل فيها الطلبة يوم السبت غالبًا، ومنها القبة البيبرسية، كان يدرس فيها الحديث، وكان يذكر الناس بمدرسة ابن البقري داخل باب النصر في يوم الجمعة غالبًا، ويفيد في مجلسه هذا أشياء حسنة من فنون العلم، وبجامع الظاهر في الحسينية بعد عصر الجمعة غالبًا.
ودرس أيضًا بمكة وأفتى وجاور فيها مدة سنين مفرقة، وسمع منه الصلاح الأقفهسي في جوف الكعبة، وتزوَّج فيها بأم أحمد فاطمة ابنة يحيى بن عياد الصنهاجي المكية، وولدت له أم حبيبة، وأم سلمة، وعبد الرحمن، وأول قدماته إليها على ما يروي السخاوي في موسم سنة 762هـ، وجاور بها حتى حج في التي بعدها، ثم جاور بها أيضًا في سنة 768هـ، قدمها مع الرجبية، فدام حتى حج ثم قدمها في سنة 772هـ، فأقام بها حتى حج في التي بعدها، ثم قدم مكة في موسم سنة 775هـ؛ فأقام بها حتى حج في التي تليها، ثم قدمها في موسم سنة 780هـ؛ وأقام بها حتى حج في التي بعدها، ثم قدمها في سنة 799هـ؛ وأقام حتى حج في التي بعدها، وانفصل عنها فأقام بالقاهرة.
قال المقريزي في عقوده: صحبته سنين، وحضرت مجلس وعظه مرارًا؛ لإعجابي به، وأنشدني وأفادني، وكنت أحبه ويحبني في الله؛ لسمته وحسن هديه، وجميل طريقته ومداومته على العبادة، لقيني مرة فقال لي: رأيت في المنام أني أقول لشخص لقد بعد عهدي بالبيت العتيق، وكثر شوقي إليه، فقال: قل: لا إله إلا الله الفتاح العليم الرقيب المنان، فصار يكثر ذلك، فحج في تلك السنة رحمه الله وإيانا ونفعنا به.
قال الحافظ شهاب الدين ابن حجر في المعجم: وكان له حظ من العبادة تلاوة وصيامًا ومجاورة في الحرمين مكة والمدينة. واشتهرت عنه كرامات، وأخبار بأمور مغيبات يسندها إلى المنامات تارة، وإلى بعض الشيوخ أخرى، وغالب الناس يعتقد أنه يقصد بذلك الستر.
ويقال أنه كان في صباه أكولًا نهمًا ثم صار بحيث يطيق سرد الصيام، وله أذكار يواظب عليها وعنده خشوع وخشية وبكاء عند ذكر الله سبحانه، وقد تزوج بابنتيه الجمال محمد، والجلال عبد الواحد بن إبراهيم بن أحمد بن أبي بكر المرشدي المكي الحنفي، واستولداهما، الأول أبا الفضائل محمدًا وعبد الرحمن، والثاني عبد الغني وغيره.
ومما ينسب إليه:
بمكارم الأخلاق كن متخلقًا *** ليفوح ند شذائك العطر الندي
وصدق صديقك إن صدقت صداقة *** وادفع عدوك بالتي فإذا الذي
يعني ما جاء في الآية 34 من سورة فصلت: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}.
وروى السيوطي في "المحاضرات والمحاورات" أن الشيخ بهاء الدين السبكي قال وهو معتكف: [الطويل]
حلفت يمينا لا أكلّم واحدا *** مدى الصوم إلا خادمي وغلامي
مخافة أن يطغى لساني بغير ما *** يحــلّ فيرميني بنقص صيامي
فأجابه الشيخ كمال الدين الدميري: [الطويل]
يمنك يا مولاي برّ وطاعة *** وقــولك مقبول بغير علام
ولكن إذا خاطبت أهل زماننا *** فلا حنث يلفى عنده لكلام
فإنّك مولاهم وسيد عصرهم *** وهم لك غلمان أتوا لسلام
وأنت الذي تفتي إذا سأل الورى *** وترشد من صلّى بغير إمام
فصومك مبرور مثاب مضاعف *** وقصدي يحوي فيك كلّ نظام
وإن فاتنا منك الخطاب فلا تدع *** دعاء لنا في الليل عند قيام
لعلي أنجو من ذنوب أتيتها *** ومــن قبح فعــل زائد وأثام
مؤلفات الدميري
ألف كمال الدين الدميرى العديد من الكتب في الفقه والحديث والأدب، واختصر وشرح الكثير من الكتب، فشرح المنهاج في أربعة مجلدات، وسماه النجم الوهاج، ضمنه فوائد كثيرة خارجة عن الفقه، وعظم الانتفاع به، وله الديباجة في شرح سنن ابن ماجة في خمس مجلدات، مات قبل تحريره وتبييضه، ونظم في الفقه أرجوزة طويلة، فيها فروع غريبة وفوائد حسنة، وله تذكرة مفيدة، وله خطب مدوّنة جمعية ووعظية، واختصر شرح الصفدي للأمية العجم المطبوع باسم الغيث المسجم في شرح لامية العجم. على أن أهم مؤلفاته وأشهرها كتاب حياة الحيوان الكبرى.
كتاب حياة الحيوان الكبرى
ويعتبر كتاب حياة الحيوان الكبرى مزيجا من العلم والأدب والفلسفة والتاريخ والحديث، وقد تمت ترجمته إلى العديد من اللغات وأقتبس منه العديد من الغربيين.
رتب الدميري في كتابه هذا الذى يعد أول مرجع شامل في علم الحيوان باللغة العربية الكائنات التى كتب عنها ترتيبا أبجديا، على طريقة المعجم، وتناول بالبحث 1069 كائنًا، موضحًا الصفات المميزة لكل كائن منها مما كان معروفًا في عهده، وموضحًا أيضا أسماء تللك الكائنات خلال مراحل نموها، وكذلك أسماءها في مختلف البلدان، وأحكام الشريعة لتلك الحيوانات ومنتجاتها، وبعض الأحاديث النبوية التى ذكرت فيها، وقد جمع مادته من 560 كتاب، و199 ديوان شعر، واتخذ في مشاهداته لصفات الحيوانات الأسلوب العلمى القائم على الرصد والمشاهدة.
ويعتبر كتاب الدميري "حياة الحيوان" أبرز كتاب وأوعب مصنف بعد كتاب "الحيوان" المشهور لأبي عثمان الجاحظ، وبين الكتابين ما يقرب من ستة قرون. ويتشارك الكتابان في جوهر الموضوع وغزارة المادة، ولكنهما يختلفان في طريقة التأليف. إذ تناول الجاحظ مادته الموسوعية برؤيته المعهودة مؤثرًا بسط معارفه العلمية وما يتصل بها من مادة شعرية أو قصصية دون حرص على تبويب دقيق أو منهج محدد، وكان الاستطراد هو المنحى الغالب على كتابه كشأنه في معظم كتبه.
أما الدميري فقد اعتمد لمؤلفه تصنيفًا معجميًا لأسماء الحيوان وفق الترتيب الألفبائي. فاستهل كتابه بإيراد أسماء الحيوانات المبدوءة بالهمزة: الأسد، الإبل، الأتان، الأرقم، الأرنب، الأفعى، الإوز. وبعد ذلك أورد ابن آوى والبازي والببر والباشق والبرغوث والبعير والبغل والببغاء والبجع والبطريق. وفي الزاي أورد الزاغ والزرزور والزرافة والزرياب.
غير أن الدميري لم يتقيد -كما يلاحظ- بترتيب أسماء الحيوان ضمن الحرف المعقود له، فلم يكن يراعي داخله الحرف الثاني فالثالث، فهو يورد الأسد ومن بعده الإبل .. على أن إيثاره الموفق لهذا المنهج المعجمي ساعده على استيعاب مجمل مادته الغزيرة المشتتة، إذ ضم في كتابه كل ما أتيح له معرفته من المخلوقات، صغارها وكبارها، فضلًا عما في ذلك من تيسير على القارىء. فلم يفته أي نوع من الحيوانات زاحفها وسابحها وطائرها، بدءًا من الصيبان والحرباء فسمك القرش ثم الكركند.
ويحتوي الكتاب أسماء غريبة لا يكاد يعرف شيء عن مسمياتها في عالم الحيوان، مثل: الزغيم، القربض، القرعوش، الأقهبان. كما أن بعضها خرافي لا وجود له مثل إنسان الماء والرخ، وما إلى ذلك مما كان سائدًا في مخيلة العرب.
ويتفاوت في الكتاب حظ كل حيوان من التعريف والوصف، وهذا طبيعي، كأن يطيل في صدد القطا والحمار والقمل والكلب .. فيستغرق ذلك منه أحيانًا أربعين صفحة، على حين يقتصر على سطر أو بضع كلمات بصدد الوقواق والعفر والشرشق.
وفي الكتاب استطرادات أيضًا تتضمن قدرًا من الأشعار والأمثال أو الحكايات والنكات، وأحيانًا بعض ما كان شائعًا من الأساطير والغيبيات حول أنواع من الحيوانات مثل الهدهد، والخنزير، والحوت. من ذلك أن من أكل لسان الببغاء صار فصيحًا وجريئًا في الكلام، وأن رؤية الخفاش في المنام دليل خير للحبلى. وكثيرًا ما يذيل الدميري مادته بذكر ما قالته العرب من الأمثال والأشعار حول الحيوان المذكور، مثل (أبلد من سلحفاة) و(أخدع من ضب) وقول شاعرهم (.. وشر منيحة تيس يعار)، وهذا كله يشير إلى غلبة الجانب الأدبي على مادة الكتاب.
طبع الكتاب عددًا من المرات، منها طبعة ثالثة سنة 1956م بعناية مصطفى البابي الحلبي وتقع في مجلدين يضمان معهما كتاب زكريا بن محمد القزويني "عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات". وهو قريب في موضوعه من كتاب الدميري. وسبق للمستشرق الكولونيل جايكار أن ترجم كتاب الدميري إلى الإنكليزية ونشر قسمًا منه في لندن سنة 1906م ثم قسمًا ثانيًا سنة 1908م حيث انتهى فيه إلى حرف الفاء.
وفاة الدميري
ومات الكمال الدميري بعد حياة علمية حافلة بالقاهرة، في ثالث جمادى الأولى سنة 808هـ / 1405م، وصلي عليه ثم دفن بمقابر الصوفية سعيد السعداء.
___________
المصادر والمراجع:
- الدميري: حياة الحيوان الكبرى، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة: الثانية، 1424هـ.
- الدميري: شرح لامية العجم (وهو مختصر شرح الصفدي المسمى الغيث المسجم)، تحقيق: الدكتور جميل عبد الله عويضة، طبعة: 1429هـ /2008م.
- ابن قاضي شهبة: طبقات الشافعية، تحقيق: د. الحافظ عبد العليم خان، دار النشر: عالم الكتب – بيروت، الطبعة: الأولى، 1407هـ.
- السخاوي: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، الناشر: منشورات دار مكتبة الحياة - بيروت، د.ت.
- السيوطي: المحاضرات والمحاورات، الناشر: دار الغرب الإسلامي – بيروت، الطبعة: الأولى، 1424هـ.
- ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب في أخبار من ذهب، تحقيق: محمود الأرناؤوط، خرج أحاديثه: عبد القادر الأرناؤوط، الناشر: دار ابن كثير، دمشق – بيروت، الطبعة: الأولى، 1406هـ / 1986م.
- الشوكاني: البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، الناشر: دار المعرفة – بيروت، د.ت.
- عمر دقاق: الدميري، الموسوعة العربية العالمية، المجلد التاسع، ص364.