TODAY - 05 August, 2010
الفيلسوف الذي نظر للتاريخ بعين العقل
مدخل فرنسي جديد إلى فلسفة هيغل مالئ الدنيا وشاغل الناس
هيغل وفلسفة التاريخ المؤلف: جاك دوندوت
باريس: هاشم صالحمؤلف هذا الكتاب هو الباحث جاك دوندوت أحد كبار المختصين الفرنسيين في فكر هيغل والفلسفة الألمانية. وهو يقدم هنا مدخلا ممتازا إلى فلسفة هذا المفكر، الذي ملأ الدنيا، وشغل الناس منذ قرنين ولا يزال. فالفكر الحديث كله ناتج عن هيغل بشكل من الأشكال، كما قال موريس ميرلو بونتي، صديق سارتر. وقد استطاع هذا الفيلسوف العبقري أن يشكل نظاما فلسفيا متكاملا، حيث درس فيه الدين والأخلاق والسياسة والدولة والمجتمع.. إلخ. لم يترك شيئا إلا وتحدث عنه، وربما كان آخر فيلسوف شمولي في التاريخ.
إنه أرسطو العصور الحديثة، فكما أن المعلم الأول تحدث عن الفيزيقا والميتافيزيقا، والمنطق والبلاغة والشعر والسياسة والأخلاق والدين.. إلخ، فإن هيغل فعل الشيء ذاته في النصف الأول من القرن التاسع عشر. ولذلك اعتبره البعض ذروة الفلسفة المثالية الألمانية التي كانت تضم أيضا كانط، وفيخته، وشيلنغ، وآخرين. ثم يقول المؤلف: لقد تأثر هيغل بكانط من دون شك، لأن كانط كان أستاذا لكل مثقفي ألمانيا في ذلك الزمان، ولكنه حاول أن يتجاوز أستاذه، وقد تجاوزه في أشياء عديدة. من هنا عظمة هيغل. ذلك أنه من النادر أن يظهر فيلسوفان كبيران في الفترة نفسها. فهيغل كان معاصرا لكانط وإن كان أصغر سنا منه بكثير.
وأما الأحداث الأساسية التي أثرت في فكر هيغل وفلسفته في التاريخ فهي الثورة الفرنسية التي اندلعت وكان عمره تسعة عشر عاما، ثم شخصية البطل نابليون بونابرت، الذي غزا ألمانيا ورآه لأول مرة على حصان، حيث تجسدت روح التاريخ كلها في شخصه، ثم الثورة الصناعية الإنجليزية التي غيرت وجه العالم.
يقول المؤلف عن حياة هيغل ما معناه: لقد ولد هيغل في 27 أغسطس من عام 1770 لعائلة تنتمي إلى البورجوازية الصغيرة، لأن والده كان موظفا في الدولة. وبعد أن أنهى دراسته الثانوية في مدينته الأصلية شتوتغارت، دخل كلية اللاهوت الشهيرة في مدينة توبنغين.
وهناك درس التاريخ، وفقه اللغة الألمانية والرياضيات بصحبة صديقه هولدرلين، الذي سيصبح شاعرا كبيرا فيما بعد. وقد نشأت بينهما صداقة حميمة وعميقة. وهناك قرأ كتب جان جاك روسو، وكانط، على ضوء أحداث الثورة الفرنسية.
ثم التحق به شاب آخر أصبح فيلسوفا كبيرا بعد ذلك أيضا، هو شيلنغ. وقد حصل تنافس بينهما أدى إلى نوع من الخصومة وسوء التفاهم. وفي عام 1790 نال هيغل شهادة التبريز في الفلسفة. وبعدئذ أصبح مربي أطفال لدى عائلة غنية في مدينة بيرن بسويسرا. وقد بقي هناك حتى عام 1796.
وفي عام 1795 ألف أول كتاب له تحت عنوان «حياة يسوع». ثم راح يدرس بشكل منهجي منتظم مؤلفات كانط، وفيخته في مدينة فرانكفورت بين عامي (1797 - 1800). ثم يردف المؤلف قائلا: وفي عام 1801 انتقل إلى مدينة «يينا» التي تحتوي على جامعة مهمة، حيث إن شيلنغ حل محل فيخته كأستاذ جامعي. وهناك انخرط في الكتابة والبحث والمناقشات الفلسفية لأقصى حد ممكن. ثم أصبح أستاذا مساعدا في الجامعة نفسها. ولكن راتبه كان ضعيفا جدا.
وفي عام 1807 أنهى هيغل تأليف كتابه الشهير «فينومينولوجيا الروح»، (أو علم تجليات الفكر والروح عبر التاريخ). ثم أصبح رئيس تحرير إحدى الجرائد الألمانية، ولكنهم طردوه من هذا المنصب بعد سنة واحدة لأسباب سياسية. فقد كانت أفكاره ثورية أو تقدمية أكثر من اللازم. ثم ألف كتابا مدرسيا في عدة أجزاء بين عامي (1812 -1816) تحت عنوان «علم المنطق».
وقد تزوج هيغل عام 1811، وولد له طفلان: الأول أصبح أستاذ تاريخ، والثاني أصبح قسا بروتستانتيا.. ثم نال هيغل منصبا جامعيا مهما في جامعة هايدلبرغ عام 1816. وفي عام 1817 نشر كتابه «موسوعة العلوم الفلسفية». وعندما مات فيخته الذي كان يحتل كرسي الفلسفة في جامعة برلين، حل هيغل محله عام 1818. وكان ذلك أكبر منصب يمكن أن يحلم به فيلسوف في ذلك الزمان، أن يصبح أستاذ الفلسفة في جامعة برلين. وعندئذ ازدادت شهرته وأصبحت عالمية تقريبا. ولكن البعض أخذوا عليه موقفه السياسي المحافظ، واعتبروه بمثابة المفكر الرسمي للنظام الملكي البروسي.
وهكذا هاجمه التقدميون أو الليبراليون. ولكن بعد فترة من الزمن راح النظام نفسه يشتبه به. وعندئذ أصبح يتلقى الضربات من كلا الطرفين. وفي عام 1821 نشر هيغل كتابه «مبادئ فلسفة القانون». وفي عام 1827 سافر إلى منطقة فايمار، حيث استقبله غوته، ثم سافر بعدئذ إلى باريس، حيث رحب به فيكتور كوزان، أستاذ الفلسفة في جامعة السوربون، وبعض المثقفين الفرنسيين الآخرين. ومات هيغل بمرض الكوليرا عام 1831، وعمره واحد وستون عاماً فقط. وبالتالي فإن كتبه عن الجماليات، وفلسفة الدين، وفلسفة التاريخ، لم تنشر إلا بعد موته.
ويرى المؤلف أن تلخيص فلسفة ضخمة كفلسفة هيغل أمر صعب جدا. فالمرء يخشى أن يشوه فكره إذا ما بسطه أكثر من اللزوم. كان هيغل يرى أن ما يتحقق في التاريخ عبر الصراعات الدامية والأهواء البشرية المتعارضة والهائجة هو الفكر أو الروح: أي العقلانية العميقة. فالتاريخ عقلاني، على الرغم من إنه يبدو لنا فوضويا، مليئا بالحروب والظلم والقهر والتناقضات. وذلك لأن العقل هو الذي يحكم العالم والتاريخ، بحسب النظرة المتفائلة لهيغل. فالتاريخ كان عقلانيا، وسيبقى، على الرغم من كل المظاهر الخادعة التي تقول العكس. والتاريخ لا يمكن أن يفهمه إلا عقل الفيلسوف.
كان هيغل يقول بالحرف الواحد: ينبغي أن ننظر إلى التاريخ بعين العقل، القادرة وحدها على اختراق السطح المبرقش للأحداث اليومية.
فالتاريخ، طبقا لتصورات هيغل، يسير في اتجاه هدف معين يدعوه فلسفيا بالفكرة العليا، أو الروح المطلقة: أي الوعي بالذات، هذا الوعي الذي يجعل الإنسان حرا. فالتاريخ يمشي في اتجاه المزيد من العقلانية، والأخلاق، والحرية. هذا هو هدف التاريخ النهائي والأخير. إنه يهدف لتحقيق السعادة للبشر على هذه الأرض، وكذلك تحقيق التقدم المادي والمعنوي.
هل ينبغي أن نستنتج من ذلك أن الناس في عصرنا أكثر عقلانية وأخلاقا وحرية مما كانوا عليه في الماضي؟ لا.. ولكن ما هو مضاد للعقلانية والأخلاق والحرية، ما عادوا يتحملونه كما كانت عليه الحال في السابق، وإنما أصبحوا يشجبونه أكثر فأكثر. لنضرب على ذلك المثل التالي: عندما كانت الكنيسة الكاثوليكية تحاكم المفكرين في القرون الوسطى أو حتى في عصر النهضة وتعدمهم، كما حدث لجيوردانو برينو وآخرين، ما كان أحد يحتج على ذلك.
كانوا يعتبرونه شيئا طبيعيا أو عاديا، لأن الكنيسة معصومة ولا تناقش. ولكن عندما قتلوا المفكرين أو حتى الناس العاديين في القرن الثامن عشر، احتج فولتير على ذلك ومعه كوكبة من المثقفين. وبالتالي فقد حدث تطور في التاريخ بالقياس إلى ما سبق. لقد تقدم التاريخ خطوة إلى الأمام.
وأما في القرن التاسع عشر، فعندما أدانوا الضابط دريفوس بتهمة الخيانة العظمى وهو بريء، فإن إميل زولا احتج على ذلك، ومعه ليس فقط المثقفون، وإنما جزء لا يستهان به من الرأي العام.. وهنا تطور التاريخ درجة إضافية بالقياس إلى عصر فولتير، لأن الرأي العام نفسه استنار وأصبح مع زولا وليس فقط المثقفون. وهكذا نلاحظ أنه يوجد تطور على مدار التاريخ من قرن إلى قرن. واليوم أصبح الحكام في الدول الأوروبية يخشون رأيهم العام إلى حد لا يكاد يصدق. ولو سمع ذلك ملوك العصور السابقة، حيث لم يكن هناك أي وزن للشعب أو للرأي العام لجن جنونهم. وبالتالي، فالذين يقولون إنه لا يوجد تقدم في التاريخ مخطئون. ولكن هذا لا يعني أن هيغل أكثر عقلانية وأخلاقية من سقراط أو أرسطو.. فقط عصر هيغل يختلف عن عصر سقراط، وعصرنا أكثر تقدما من عصر هيغل، إلخ.
كان هيغل يرى أن التاريخ الكوني أو تاريخ العالم لا يهتم بالأشخاص الفرديين، وإنما يهتم بـ«الفرد الكوني»، أي بالشعب ككل وبروح هذا الشعب. وهذا ما ندعوه الآن بخصوصية الشعب الألماني، أو الفرنسي، أو العربي الإسلامي.. إلخ.
فكل شعب له روح جماعية لا يعرفها أو لا يحس بها إلا الأبطال أو الشخصيات الاستثنائية. ولهذا السبب ندعوهم بالأبطال. فهم مفعمون بروح الشعب ويتمتعون بحدس داخلي خارق، على عكس بقية البشر.
وهؤلاء يصبحون عادة قادة للبشر. وبالتالي فالبطل التاريخي هو ذلك الشخص الذي يستشعر بما يطمح إليه وعي البشر في عصره ويحققه لهم. إنهم يطمحون إليه بشكل مبهم، غامض. ولكنه وحده يعرف ما هو هذا الشيء المبهم الغامض، ويعرف ما هو الطريق للوصول إليه. ولذلك فإنه يدل الناس على هذا الطريق من أجل تحقيق أمنية شعبه. نضرب على ذلك مثلا بلوثر أو نابليون أو ديغول أو تشرشل أو عبد الناصر في لحظة من اللحظات..
وهذا ما يفسر الإجماع الذي يتحقق حول الرجل العظيم أو البطل. فالرجل العظيم من دون الشعب لا شيء. ولكن الشعب من دون الرجل العظيم لا يعرف كيف يتجه، ولا كيف يمسك بأول الخيط الذي يؤدي إلى الخلاص.. إلى الحل.. إلى الفجر.
وبالتالي، فالشعب في حاجة إلى الرجل العظيم، لكي يستشعر بمطامحه وآماله ولكي يحققها له. وكل شعب له خصوصيته التي يتجه نحوها والتي تشكل جوهره، أو غايته، أو هدفه الأعلى في الحياة.
ويرى المؤلف أن مسار روح العالم بالنسبة لهيغل يهدف في النهاية إلى تأسيس الدولة التي تحقق الحرية والسعادة لكل المواطنين من دون استثناء. وفي الدولة تتحقق الحرية بشكل موضوعي. وبالتالي فغاية التاريخ هي الدولة، وغاية الدولة هي الحرية.
وإذا كان العقل يحكم العالم ويتجسد في التاريخ، فإن المظهر السطحي للتاريخ يوحي لنا بأنه فوضى أو جنون أو عنف أعمى لا غاية له ولا عقلانية. ولذا ينبغي علينا أن نفرق بين التاريخ العميق أو الحقيقي الذي لا يرى بالعين المجردة، والتاريخ الظاهري السطحي الذي نراه كل يوم. والشر في نظر هيغل ليس كله شرا. فلولاه لما اكتشف (الناس) الذين يصنعون التاريخ معنى الخير. وبالتالي فهناك وظيفة إيجابية للشر أو للعامل السلبي. ولا ينبغي أن نستهين بها. فلولا السلبي لما كان الإيجابي: ولا بد دون الشهد من إبر النحل..ضمن هذا المنظور الهيغلي الواسع يصبح للشر معنى ولا يعود شيئا عبثيا أو اعتباطيا أو شاذا. وإنما يصبح شيئا ضروريا لتحقيق التقدم في التاريخ. وعندئذ نستطيع أن نتحمل ما لا يحتمل أو نتقبل ما لا يقبل. هذه هي فلسفة التاريخ في خطوطها العريضة لهيغل. وهي فلسفة جديرة بالتمعن والاهتمام لأنها تنطبق على الواقع العربي والإسلامي اليوم إذا ما أحسنا فهمها وتطبيقها. فما يحصل من كوارث وفواجع اليوم في العراق أو فلسطين أو كل مكان ربما كان ضروريا لكي نفتح أعيننا على خطورة العوامل السلبية في التاريخ، فنحاول إيجاد مضادات حيوية لها. وأقصد بذلك تشخيصات فلسفية عميقة ومضيئة للواقع العربي والإسلامي. نحن بحاجة فعلا إلى هيغل عربي لكي يشرح لنا حقيقة ما يجري اليوم، لكي يساعدنا على أن نتحمل ما لا يحتمل ولا يطاق. ولكني أستطيع الرهان على أن عذابات الشعبين العراقي والفلسطيني وكل الشعوب العربية عموما لن تذهب سدى.