علم الفلك للتلسكوبات الصغيرة
أعرف ما تشعر به، أنت لا تود شراء تلسكوب صغير فربما لا يكون مفيدا على الإطلاق مقارنة بتلك التلسكوبات الضخمة التي تراها في وسائل التواصل، ولا شك أن القاعدة الرئيسية التي نتبعها عند ترشيح تلسكوب لشخص ما هي أنه "كلما كان القطر أكبر، كان التلسكوب أفضل"، لكن ذلك يقود البعض لتصور أن التلسكوبات الصغيرة لا يمكن لها أن تعطي لنا ليلة رصد ممتازة لروائع سماء الليل. في الحقيقة يمكن القول أن البداية مع تلسكوب صغير غير معقد سوف تعطيك دفعة جيدة للغاية في ليلات الرصد، في هذا الدليل المفصل سوف أقترح عليك بعض أفضل النشاطات التي يمكن لك أن تمارسها بتلسكوب صغير لا يتخطى قطرة الأربعة إنشات.
في الحقيقة، أن أفضل بداية رصدية مع سماء الليل تتمثل في التلسكوبات الصغيرة وليست الكبيرة، حتى وإن كانت الكبيرة تحقق رصدا أفضل لعدد أكبر من أجرام سماء الليل، وذلك لعدة أسباب:
1- سهولة حمل التلسكوب الصغير، مقارنة -مثلا- بتلسكوب 8 إنش يحتاج لمجهود كبير وربما سيّارة لنقلة من مكان لآخر، سوف يدفعك ذلك للتكاسل بعد فترة ليست بكبيرة.
2- انخفاض سعره، حيث لن يتعدى في المعدل ما يقابل 100 دولار أمريكي في أي مكان للبيع بالوطن العربي، وهنا يدفعك ذلك أن تشرع فورا بشرائه بدلا من التأجيل مرّات عدة، كذلك يمكن التعامل مع تلك البداية كاختبار آمن لمدى حبك لسماء الليل، فإن مللت سريعا فأنت لم تدفع الكثير.
3- والميزة الأهم هي إمكانية التعامل معه وفهمه بسهولة، حيث لن يكون من السهل شراء تلسكوب كبير معقد كأول محاولة مع السماء، سوف تمل سريعا لعدة أسباب تتراوح بين عدم قدرتك على فهم القطعة التي أمامك بسهولة وضيق مجال رؤية التلسكوب بحكم قطرة الكبير مما يلقي بك تائها بين النجوم لا تعرف أين تبدأ.
كل ما تحتاجه مع تلسكوب صغير، في البداية، هو فهم مبسط لحركة دوران سماء الليلأ، مع اطلاع على بعض الكوكبات الأساسية، وتحديد ما تريد رصده في سماء الليل قبل الصعود للرصد. يجب هنا توضيح أن أول المشكلات التي تواجهنا هنا هي الرصد العشوائي، محاولة التقاط أي شيء يمكن رصده دون خطة مسبقة سوف يسرق الكثير من الوقت والجهد وربما يدفعك لفض عملية الرصد كلها سريعا، إن ما تحتاجه من وقت للتجهيز والقراءة عما سوف ترصده بالأعلى يساوي في الأهمية ما سوف تفعله بالتلسكوب.
جيران الحيّ الشمسي
تعد أفضل بداية مع تلسكوب صغير هي أن ترصد القمر، في التلسكوب الصغير يظهر جسم القمر كاملا ويعطينا عدد من التفاصيل الممتعة للفوهات والبحار والتفاصيل على سطحه يوما بعد يوم. دعنا نتجاوز حديثنا عن القمر فقد خصصت له دليلا سابقا بعنوان "كيف نرصد القمر؟"ب الذي سوف يعطيك عدد من أساسات رصده مع ترشيحات لبعض الأطالس الهامة والمجانية، لندع ذلك جانبا ونذهب إلى الشمس.
تعد الشمس أحد أهم أهداف التلسكوبات الصغيرة، فهي -كالقمر- تظهر كاملة واضحة في مجال العدسة. على عكس المتوقع، هناك العديد من الموضوعات الممتعة المتعلقة بالشمس والتي يمكن لك الخوض فيها بشكل أكثر عمقا وإثارة، فالبقع الشمسية ليست مجرد تلك البقع السوداء المظلمة التي تتناثر على سطح الشمس، لكنها تمكنك بعد فترة من الرصد من التعرف على درجة النشاط الشمسي.
تحذير: لا يمكن النظر للشمس بالتلسكوب مباشرة، ويُستخدم لهذا الغرض فلتر شمس خاص يمكنك طلبه أثناء شراء التلسكوب
في بعض الأحيان تتخطى مساحة البقعة الشمسية حجم الأرضناسا
تُنهي الشمس دورة كاملة كل إحدى عشرة عاما، تنتقل خلالها من أكبر نشاط ممكن (Solar Maxima) تتواجد خلاله معظم البقع الشمسية قرب قطبي الشمس الشمالي والجنوبي، إلى أقل نشاط ممكن (Solar Minima) تتواجد خلاله البقع الشمسية بالقرب من خط الاستواء، كذلك يمكن لنا أثناء الرصد التعرف على عدة أنواع مختلفة من البقع الشمسية.
بعض البقع مكون من بقعة واحدة -أحادي القطب- والبعض الآخر مكون من بقعتين -ثنائي القطب-، بعضها يحتوي على شبه ظل (Penumbra) يحيط به والبعض الآخر لا، يمكن هنا أن تبدأ ببحث قصير عما نسميه "تقسيم زيورخ للبقع الشمسيةأ" وتبدأ في تأمل نوع البقعة التي تراها على سطح الشمس، يمكن لك الاستعانة بالخرائط اليومية التي يقدمها "سوهوب" مرصد الشمس وغلافها الذي يتخصص بفحص الشمس وكل ما يصدر عنها، وكذلك سوف يقدم لك كتاب "1Sun and how to observe it" من دار نشر "سبرنجر" (Springer)، والمفتوحة مجانا في مصر، دعما قويا لتحقيق أفضل رصد ممكن للشمس.
دعنا الآن ننتقل إلى الكواكب، سوف يساعدك تلسكوب صغير على تأمل الرباعي المرح الشهير: الزهرة، المريخ، زحل، المشترى، دعنا نتعرف على بعض المعلومات الأساسية عن الرصد هنا هنا:
1- يظهر الزهرة ككرة بيضاء غاية في الصغر، رغم ذلك يمكنك تمييز أطواره عبر تلسكوب صغير، حيث يتنقل الكوكب اللامع ما بين الهلال والبدر كالقمر، الزهرة هو هدف سهل للهواة، فهو ألمع أجرام سماء الليل بعد القمر والشمس.
2- المشترى هو أجمل الكواكب في التلسكوبات الصغيرة، لسببين، أولهما أنه يظهر واضحا مع تلك الخطوط العريضة المائلة للون البنّي على سطحه، وثانيهما لأنك سوف تتمكن من رصد أقماره الأربعة الجاليلية "آيو، كاليستو، جيناميد، يوروبا"، يمكن لك معرفة مواضع أقمار المشترى الأساسية الأربعة بسهولة عبر تطبيق ممتع تقدمه مجلة "سكاي آند تلسكوب" (Sky & Telescope) الشهيرة2، سوف تتعلم الكثير عن حركة تلك الأقمار وكسوفاتها وخسوفاتها على الكوكب، ويمكن لك رصد ذلك كله.
3- سوف يظهر زحل واضحا بحلقاته الضخمة في تلسكوب صغير، بل يمكن لك أيضا متابعة قمره الأكبر "تايتان" بسهولة، كذلك يمكن مع بعض التدقيق أن تلاحظ ميل الحلقات.
4- أخيرا، يظهر المريخ مثل دائرة حمراء صغيرة، تبدو للوهلة الأولى مثل نجمة حمراء لكن مع بعض التدقيق سوف تتمكن من تحديده كدائرة صغيرة وليست رأس دبّوس منير كباقي النجوم.
5- يمكن لك كذلك أن تتبع حركة بعض المذنبات الشهيرة التي تقترب من الأرض حتى يصل قدرها الظاهري لـ 4 - 6، هنا يمكن لتلسكوب صغير أن يلتقط صديقنا هذا الذي سافر مليارات الكيلومترات لكي يزورنا، في أوقات اقتراب المذنبات تنتشر الأخبار في الويب بين هواة الفلك ومواقعهم الشهيرة.
بعيدا في العمق
جميل جدا، ربما تظن أن تلسكوب صغير قد انتهى بالفعل من تأدية مهامه الرائعة بحلول كوكب زحل، لكن صدق أو لا تصدق، فرحلتنا الرائعة لم تبدأ بعد، لازالت هناك العديد من أجرام السماء العميقة التي يمكن أن تمثل أهدافا جيّدة للغاية لتلسكوب صغير، دعنا نبدأ بالنجوم المزدوجة.
تمثل النجوم المزدوجة ما يقترب من 40% سماء الليل، ويتكون النجم المزدوج/الثنائي من نجمين يدور كل منهما حول الآخر، هناك العديد من أنواع النجوم المزدوجة، فهناك الثنائيات الكاذبة، والكسوفية، والطيفية، والقياسية.. إلخ، وتتنوع جميعها بتنوع أشكال دورانها وكيفية رصدنا، وتتراوح مدة دوران النجمين حول بعضهما البعض بين نطاق زمني واسع، فقد تنتهي الدورة في أقل من ساعة واحدة وحتى بضعة أيام، وقد تصل إلى مئات أو آلاف السنوات، لكن يمكن أن ندع الخوض في فيزياء ذلك الموضوع الممتعة لكتاب بسيط بعنوان "النجوم المزدوجة والمتلازة، وكيفية رصدهم" (3 Double and multiple stars, and how to observe them) الذي ربما سوف تجده بسهولة على الويب وهو متاح مجانا من دار نشر سبرينج للنطاق المصري.
أشهر النجوم المزدوجة في سماء الليل، والتي يمكن لك أيضا رصدها بالعين المجردة، هو المزدوج ميزار وألكور في كوكبة الدب الأكبر، يمكن لك أن تبدأ تدريبك به، حيث سوف تنبهر من مدى سهولة فصلهما بتلسكوب بسيط، ربما قد يزيد من شعورك بالسحر أن ما تنظر إليه خلال تلسكوبك البسيط ليس فقط نجمتان تدوران حول بعضهما البعض، بل هما ست نجوم، فميزار يتكون من نجمتين يدوران حول بعضهما البعض، أما ألكور فيتكون من نجمتين تدوران حول بعضهما البعض وكل منهما نجم مزدوج هو الآخر، هل تستشعر قدر المتعة؟
بعد ميزار وألكور يمكنك أن تنتقل إلى ألبيريو، من كوكبة الدجاجة (Cygnus)، سر روعة ألبيريو هو الفارق اللوني الواضح والرائع بين النجمين، يمكن لك عبر تلسكوب بسيط ملاحظة الفارق بسهولة، مجموعة أخرى من النجوم المزدوجة الرائعة تبدأ بـ ايبسلون القيثارة، كوكبة القيثارة (Lyra)، وايتا ذات الكورسي، كوكبة ذات الكرسي (Cassiopeia) يمكن لك أن تتابعها بسهولة عبر تلسكوب بسيط، كذلك سوف تجد قوائم كثيرة في الكتاب الذي رشحته لك منذ قليل، وتقدم لنا مجلة "سكاي آن تليسكوب" قائمتين4 غاية في الروعة لمحاولات أكثر عمقا، قد يساعدك في تلك النقطة أن تستخدم الأطلس الأشهر في هذا الصدد وهو "كامبريدج دوبل ستار أطلس" (Cambridge atlas of double stars) ويقدم يوشيمي تاكي5،6كذلك أطلس مجاني للنجوم المزدوجة.
النجوم المزدوجة7 هي واحدة من عجائب سماء الليل التي تستدعي التأمل دائما، بل يمكن لك التعمق فيما بعد لدراسة حركة نجوم مزدوجة بعينها على مدى زمني واسع، يحتاج الأمر فقط لبعض القراءة قبل الصعود للرصد، عن مكونات ما تريد أن ترصده وبعض فيزيائه، سوف يعطي ذلك لرصدك زخما ومتعة لن تنساها، فإن ما تستشعره حينما تعلم أن هذا المزدوج الذي تراه -مثلا- هو أربعة نجوم تدور حول بعضها البعض هناك على بعد تريليونات الأميال، أربعة شموسٍ كشمسنا الدافئة، يدفعك لشواطئ التأمل حتما، والتراقص بين أجمل الأفكار.
حسنًا، لم تنته رحلتنا بعد، بل ما زلنا في منتصفها تقريبا، وما زالت في جعبة الفلكي الهاوي بعض الروائع السماوية التي تجعل من ليلة رصد بسيطة مع تلسكوب صغير فيلما بروعة "بين النجوم" (interstellar)، ربما سوف نعرضها في جزء ثان قريب لهذا الدليل بحيث تكتمل أدواتك.
إن تلسكوب صغير هو بداية ممتازة للجميع، وهو هدية مثالية لأطفالك حينما يبلغون الثامنة من العمر، سوف يفتح لهم ذلك بابا عظيما لا يمكن توقع مدى روعة مستقبله.