بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين


مع انتشار خطابٍ دينيٍّ متطرّف في العالم العربي إثر ثورات الربيع العربي، بدأ بعض الشّباب العربي في إعلان عدم إيمانهم صراحةً، والتَّعبير عن اختلافهم مع الخطاب الديني السائد ورفضهم له.
وقد أثار هذا الاتجاه نقاشاً حادّاً في المنطقة العربيّة، ولا سيّما على شبكات التواصل الاجتماعي، وكسر حاجزاً ظلّ يُنظَر إليه باعتباره من "التّابوهات" المحرَّم الحديث فيها على مدار العقود السابقة.
وبسبب ذلك، يصبح من العسير الوصول إلى أرقامٍ دقيقةٍ عن عدد الملحدين في العالم، لكنّ بعض الجهات الدينيّة أشارت إلى بعض الأرقام. فوفقاً لتصريحاتٍ لدار الإفتاء المصريّة في يناير/ كانون الثاني 2014، فإنَّ هناك نحو 866 ملحداً في مصر، في حين قدّر آخرون عددهم بالآلاف.
فيسبوك وتويتر ويوتيوب والمدوّنات هي الوسائل الإعلاميّة الأكثر تداولاً بين الملحدين العرب، لأسبابٍ عدّة ربما من أهمّها أنها تتيح للمستخدم خيار عدم الكشف عن تفاصيل هويته.
ويحتوى فيسبوك على العديد من الصّفحات التي تدعو الملحدين العرب إلى الانضمام إليها، ومن هذه الصّفحات: "الملحدين التونسيين"، التي تضمّ أكثر من 10 آلاف متابع، و"الملحدين السودانيّين" التي تضمّ أكثر من 3000 متابع، وأيضاً "شبكة الملحدين السوريّين" الّتي تضمّ أكثر من 4000 متابع.
وعلى تويتر، يتراوح عدد متابعي الحسابات الّتي يعلن أصحابها عن إلحادهم بين المئات والآلاف، فمثلاً، يتجاوز عدد متابعي حساب "أراب أثيست" 8000 متابع.
بعض هؤلاء يقول إنّ هدفه إعمال العقل ونشر العلم، وهناك من يقول إنّ تغريداته موجَّهة للأتباع الملحدين. وهناك من يصف نفسه بأنّه "كافر وملحد" وينشر مشاركات تدّعي "بأن الخطاب الإسلامي يشجّع على العنف ضدّ الديانات الأخرى".
و
على يوتيوب، أنشأ بعض الملحدين العرب العديد من القنوات الّتي تجذب آلاف المشتركين. وغالباً ما ينشر أصحاب هذه القنوات مقاطع فيديو ضدّ الدّين الإسلامي تحمل عناوين مثل: "خرافات الدين".
لماذا تخلّى بعض العرب عن الدِّين؟

على الرغم من أنَّ العديد من الأسباب الّتي دفعت بعض العرب إلى التخلّي عن الدين مماثلة لتلك التي يذكرها الملحدون في أيّ مكان آخر في العالم، فإنّ هناك أسباباً أخرى يمكن أن تتّسق مع السياق السياسي في العالم العربي، منها أنّ العنف الذي تمارسه بعض الجماعات الإسلاميّة المتشدّدة قد دفع بعض النّاس إلى التّشكيك في مبادئ الإسلام.
وقد تحدّثت دار الإفتاء المصرية عن هذا السّبب على وجه الخصوص، حيث اعتبرت أنّ "الممارسات العنيفة للإرهابيّين، والتشدّد لدى بعض الجماعات الإسلاميّة، سبب انتشار الإلحاد في بعض البلدان العربيّة".
وأضافت أنّ "أبرز الأسباب الّتي تدفع الشّباب إلى الإلحاد، هي ممارسات الجماعات الإرهابيّة التكفيريّة الّتي تنتهج الوحشيّة والتّرهيب والذّبح باسم الإسلام، والّتي صدّرت مفهوماً مشوّهاً لتعاليم الدّين، ورسَّخت صورة وحشيّة قاتمة له، ما نفَّر عدداً من الشّباب من الإسلام ودفعهم إلى الإلحاد".
في العالم العربي، يجري، غالباً، الخلط بين مفهومي الإلحاد والعلمانيّة، وكلاهما غير مقبول لمختلف شرائح المجتمعات العربيّة، وإن بدرجات متفاوتة.
ووفقاً لموقع "ديلي نيوز" المصري، فإنّ دار الإفتاء تقسم "الملحدين" إلى ثلاث مجموعات، هي "أوّلاً: الّذين لا يعترضون على الإسلام كدين، ولكن يرفضون (أسلمة السياسة) وينادون بدولة علمانيّة. وثانياً: الذين يرفضون الإسلام كدين تماماً. وثالثاً: الذين تحوّلوا من الإسلام إلى دين آخر".
وإن كان بعض السلفيّين المتشدّدين ينظرون إلى العلمانيّة والإلحاد على أنهما صنوان، هناك مسلمون ملتزمون دينيّاً ينادون بفصل الدّين عن الدّولة، ويسعون إلى إيجاد خطاب إسلامي جديد، معتقدين أنّه يمكن تحقيق التقدم والإصلاح عن طريق تحدّي الممارسات الدينيّة "القمعيّة".
أحد هؤلاء هو المفكّر والكاتب المصري سيّد القمني، الّذي يدعو في كثير من مقالاته ولقاءاته التلفزيونيّة إلى إنشاء "دولة مدنيّة" و"تفسير جديد" للخطاب الإسلاميّ.
مثال آخر هو الباحث المصري إسلام البحيري، الّذي كان يقدِّم برنامجاً تلفزيونيّاً على فضائيّة القاهرة والنّاس، حيث أثار جدلاً في المجتمع المصري، بسبب تشكيكه في بعض مصادر الأحاديث النبوية.
وكلا الرّجلين له متابعون على شبكات التّواصل الاجتماعي. فعلى فيسبوك مثلاً، اجتذبت صفحة "محبي سيد القمني" وصفحة "محبي إسلام البحيري" نحو تسعة آلاف متابع لكلّ منهما.
وأثار موضوع الإلحاد نقاشاً على محطات التلفزيون العربيّة في الآونة الأخيرة، واستضافت بعض البرامج لأوّل مرة ملحدين جنباً إلى جنب مع رجال دين مسلمين.
وعادةً ما يسأل المذيع الملحدين عن أسباب تخلّيهم عن الإسلام، في حين يُرجع الوعّاظ السبب إلى مشاكل شخصيّة أو إلى المراهقة.
وتصف وسائل إعلام مصريّة أحياناً جهود الدولة والمؤسّسات الدينيّة لمكافحة هذا الاتجاه باسم "الحرب على الإلحاد".
وتقول دار الإفتاء المصريّة إنَّ "مواقع التواصل الاجتماعي وفَّرت لهؤلاء الشباب المغرَّر بهم مساحات كبيرة من الحريّة أكثر أماناً للتَّعبير عن آرائهم ووجهة نظرهم في رفض الدّين".
وفى يونيو/حزيران عام 2015، أطلقت وزارة الشّباب المصريّة، بالتعاون مع مؤسَّسة الأزهر، مبادرةً لمواجهة "التطرّف والإلحاد". وفى تصريحاتٍ صحفيّة، قال الشّيخ أحمد تركي- أحد منسّقي المبادرة - إنّ المبادرة تهدف إلى "تسليح الشّباب بالحجج العلميّة في وجه الادّعاءات الإلحاديّة".
وتعليق..
إنّ مسألة الإلحاد تحتاج إلى معالجةٍ لجذورها بالأسلوب المناسب، فالإلحاد ناتج من ضغوطات نفسيّة واجتماعيّة وفكريّة. لذا، فهذه الظّاهرة لا بدّ من التوقّف عند أسبابها ودراستها بشكلٍ موضوعيّ ومتوازن.
وفي سياقٍ متَّصل،
قيمة الإيمان: "هناك الكثيرون من النَّاس لا يطيقون الحديث عن الإيمان والكفر، ويعتبرون إثارته في المجتمع ومحاولة عرضه كقضيَّة حيويَّة، ضرباً من ضروب الأحاديث الّتي لا تمثِّل شيئاً في حياتنا، ويرون أنَّ لدينا من القضايا الحياتيَّة المهمَّة ما يغنينا عن التكلّم في قضيَّة الإيمان بالله والكفر به، ولا سيَّما أنَّ بعض المعسكرات العالميَّة تستغلّ هذا الحديث في توجيه حملاتها إلى بعض التيّارات الفكريّة والسياسيّة الّتي ترتكز على الإلحاد بطبيعة ارتكازها على المادّة كقاعدة فلسفيّة أساسيّة. ولكن، هل نستطيع اعتبار الإيمان بالله والكفر به قضيّة جانبيّة تعيش على هامش قضايانا الحياتيّة؟!
وهل يبرِّر استغلال هذه القضيَّة من قِبَل بعض التيّارات السياسيّة السّكوت عنها، وترك دعوات الإلحاد تغزو أذهان الجيل وتفكيره، ما دمنا نستطيع معالجة هذه القضيَّة بأسلوبٍ يبتعد بها عن عمليَّات الاستغلال؟
إنّنا نعتبر قصَّة الإيمان بالله والكفر به من القضايا المصيريّة الّتي تقرِّر مصير الأمَّة نحو الخير أو الشّرّ، نحو الهدى أو الضَّلال.
ولكنّنا لا نريد بالإيمان بالله هذا اللَّون التّقليديّ المائع الّذي لا يلامس الإحساس ولا يوجّه الشّعور، وإنما نريد به هذه العقيدة الّتي إذا انطلقت في كيان الإنسان وحياته، فلكي تبعث فيه الضَّمير الّذي يحاكم ويحاسب، والقلب الَّذي يحسّ ويشعر ويتألّم، والرّوح الّتي توجِّه وتنير وتهدي...
إنَّنا نريد به النّور الّذي يهدي الإنسانيّة ويوجِّهها إلى سواء السَّبيل، كما قال تعالى: {وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[الحديد: 28].
ويقول تعالى: {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة: 257].
إنَّنا نعتبر أنَّ الإيمان بالله يمثِّل الضَّمانة الوحيدة الّتي يمكن أن تحفظ للإنسان إنسانيَّته، وتصون له مُثُله وقيمه، لأنّه هو الّذي يجعل للأخلاق معنى، ويحمي الحياة من صفة العبث، ولهذا ركّزت الأديان السماويّة على فكرة الإيمان بالله كحقيقةٍ تفرضها الفطرة، ويركِّزها الوجدان، ويوحي بها الشّعور المستقيم.. ومن هنا، كانت تتسامح في أيَّة خطيئة ما عدا خطيئة الكفر بالله والإشراك به".[من كتاب "قضايانا على ضوء الإسلام"، ص281].
"إنَّ الإنسان يشعر بالطّمأنينة والسّلام الرّوحيّ والأمل الكبير الممتدّ في جميع خطوات الحياة، لأنّه يتَّصل بالله تعالى الّذي تخضع له كلّ مشاكل الحياة وعقباتها، وكلّ آلام الحياة وأفراحها، ويحسّ الإنسان إلى جانب ذلك بالرّعاية الدّائمة تحوطه، والرّحمة الحانية ترعاه، فلا يحسّ بأيّ شعورٍ يلتقي بالضّياع والانهيار واليأس، وفقدان الهدف والمعنى لوجوده، مما تعارف الملحدون على أن يعيشوه، ليشعروا بالفراغ الكبير الّذي يدمِّر حياتهم في نهاية المطاف.
ويشارك الإيمان بالله عزّ وجلّ شعور الإنسان بالرّقابة الدّائمة القويّة القادرة الّتي تمنعه من الاعتداء على الآخرين في فكره وكلامه وعمله، حتّى في أشدِّ الحالات شعوراً بالأمان، الّذي ينشأ من فقدان الشّعور بوجود آخرين يحاسبونه.
وبهذا نعرف كيف يعطي الإيمان بالله سبحانه وتعالى لحياتنا معنى جديداً يغنيها وينمّيها، ويربطها بالمعاني الكبيرة، والهدف المنشود العظيم في الحياة، بينما يكون الإلحاد عنصر تفريغ للحياة من كلّ المعاني الرّوحيّة والأهداف المثلى، ويبقى للإنسان فيها أن يولد ويعيش ويموت دون معنى ودون هدف ودون غاية".[مفاهيم إسلاميّة عامّة، ص 412].