بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين


غلب الناس تتحاشى ذكره وكأنه غير موجود، رغم أنه لا ينفك يرسل لنا رسائله وتنبيهاته دوماً وأبداً وفي مناسباتٍ شتى، وبشكل يومي وفصلي وسنوي، يذكّرنا بوجوده وبموعد اللقاء.
هو الصديق الناصح، هو معنا وبيننا وأمامنا، يرافقنا في حلّنا وترحالنا، يطلبنا وفي نفس الوقت يحرسنا، لا مهرب منه، لن يكون لقاءنا به صدفة بل عن موعد مسبق لا مناص منه، نعم يمكن تأجيل الموعد في حالات خاصة، كما أن هنالك أسباب تؤدي إلى تعجيل وتقديم الموعد.
هو ضيف لا بد أن يحلّ بنادينا… طوبى لمن أعدّ واستعد لضيافته، ليوم لا بدّ هو آتٍ، ولساعةٍ حتماً جزماً قادمة.
هو الواعظ… وكفى به واعظاً في الحذر وترك كل شائبة مما لا ينفع ولا يفيد قبل موعد لقائنا به، والحرص والعمل والجد في طلب كل ما هو خير وصلاح لما بعد اللقاء.
هو المحفّز لعمل الخيرات، والمسارعة وعدم التمهّل في إنجاز ما فيه النجاة، والإستعداد لما هو آت، لأن توقيت موعد اللقاء غير معلوم، لذا لا تأجل عمل الخير، وترك الشر والاستغفار والتوبة منه.
هو موعد لقاء… فاز من تهيّأ لذلك الموعد، لا بجمال المظهر إنما بطيب الجوهر، لا بكثرة مال أو بنين، إنما بحسن عمل واعتقاد وقلب سليم.
هو مفرّق الأحباب… هو للّذات هادم… هو لا بد قادم… هو كأس في يومٍ ما سنشربه، ليس بيدنا تحديد متى وأين وكيف؟، ولكننا نستطيع بشكل ما اخيار كيف نكون، أو لنقل نسعى وندعو أن نكون على أفضل وضع وأحسن حال حين اللقاء.
إنه نهاية وفي نفس الوقت بداية، إنه نهاية لحياة وولادة لحياة جديدة في عالم آخر، إنه الصحوة من النوم.
ما نحن عليه الآن لم يكن لنا الإختيار فيه، لا كيف نكون في الشكل، ولا في أي صلب نرتحل ولا في أي رحِم نستقر ولا في أي بيئة نولد، لكننا حتماً نستطيع أن نعمل ونسعى لنحدد كيف سيكون وضعنا ما بعد هذا العالم.
عجباً كيف لا نراه؟
يظهر لنا في المشيب أو في فقد قريب، حين تساقط الأسنان او في موت إنسان.
نجرّبه كل يوم في نسخته المصغّره، فما النوم إلا موت مصغّر، والاستيقاظ من النوم بعثٌ مصغّر.
البعض منا يحتفل به سنوياً تحت عنوان عيد الميلاد، وحقيقة الامر أننا نحتفل بانتهاء سنة من رصيدنا العمري، وبدنو موعد اللقاء به.


إنه الإشتياق لموعد اللقاء… اللقاء بمن نحب ونتولّى.
وفي أبيات جميلة للسيّد الحميري يصيغ حديثاً يُروى عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال للحارث الهَمْدانيّ:
يا حارَ هَمْدانَ مَن يَمُتْ يَرَني مِن مؤمـنٍ أو منافـقٍ قُبُـلا
يَعرِفُني شخصُـهُ وأعرفُـهُ بإِسمِـهِ والكُنـى وما فَعَـلا
وأنت يا حارُ إن تَمُتْ تَرَني أسقيك مـاءً تَخالُـه عَسـلا
أقول للنار حين تعرض للعر ض دعيه لا تقبلي الرجلا
دعيه لا تقربيه إن له حبلاً بحبل الوصي متصلا


درسٌ من كربلاء:
في نهضة الإمام الحسين عليه السلام ذُكر الموت مرات عديدة، ونجد في كلمات الإمام وأهل بيته توصيف للموت حريٌ بالمؤمن الإلتفات له، ودرسٌ من دروس كربلاء.

هو السعادة كما وصفه سيدنا الإمام الحسين عليه السلام ( لِيَرْغَبِ الْمُؤمِنُ فِي‌ لِقَاءِ رَبِّهِ مُحِقَّاً، فَإنِّي‌لاَ أَرَي‌’ الْمَوتَ إلاَّ سَعَادَةً وَالْحَيو’ةَ مَعَ الظَّالِمِينَ إلاَّ بَرَمَاً )

وقال عليه السلام أيضاً: ( خُطّ الموت على ابن آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ).
وقد سمعت أحد العلماء يقول: إن الإمام الحسين عليه السلام في قوله هذا لم يصف الموت بشيء بشع وأمر مستنكر، إنما وصفه بأفضل زينة، كما أن الفتاة تتزيّن بأفضل زينة لديها وهي القلادة.


وقال عليه السلام: ( أَلا وَإِنَّ الدَّعي ابنَ الدَّعي قَد رَكزَ بَينَ اثنَتَينِ ، بَين السِّلَّةِ والذِّلَّة ، وهَيهَات مِنَّا الذِّلَّة ، يأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون ، وحِجُور طَابَتْ وَطَهُرتْ ، وأُنُوفٌ حَميّة ، ونُفوسٌ أَبِيَّة ، مِن أنْ نُؤثِر طَاعةَ اللِّئامِ عَلى مَصَارِعِ الكِرَام ) .

وحين النزال ارتجز العباس عليه السلام وقال:
لا أرهبُ الموتَ إذا الموتُ زقا *** حتى أُواري في المصاليت لقا
إني صبورٌ شاكرٌ للملتقى *** ولا أخافُ طارقاً إن طرقا
بل أضربُ الهامَ وأفري المرفقا*** إني أنا العباس صعبُ الملتقى

نفسي لنفس الطاهر السبط وقا

وقال علي الأكبر لأبيه الإمام الحسين عليه السلام : يا أبتِ لا أراكَ الله سوءاً.. أَلَسْنَا على الحق ؟
قال الحسين: بلى والذي اليه مَرجِعُ العباد .
قال: يا أبتِ إذن لا نبالي وَقَعَ الموت علينا ، أم وَقَعْنَا على الموت.

القاسم بن الحسن عليهما السلام لمَّا سأله الإمام الحسين (عليه السلام) يا بني كيف الموت عندك ؟ قال : (يا عم فيك أحلى من العسل).
ولعل (العسل) هنا يرمز إلى جميع ملذات الدنيا، فالموت دون الحق أحلى من جميع ملذات الدنيا.

وماذا عن أصحاب الإمام الحسين عليه السلام حين ابتليوا بهذا الإختبار،
هل تزلزلوا؟
هل زاغت أبصارهم؟
هل بلغت قلوبهم الحناجر؟
هل ظنوا بالله الظنونا؟
الإمام الحسين (عليه السلام) يُجيبنا عن ذلك حين قال لاخته زينب (عليه السلام) واصفاً أصحابه:
( والله لقد بلوتُهم فما وجدتُ فيهم إلا الاشوس الاقعس يستأنسون بالمنية دوني استيناس الطفل إلى محالب أمه ).

الخلاصة:

اذا كان شعارك كما قال الإمام: (” لِيَرْغَبِ الْمُؤمِنُ فِي‌ لِقَاءِ رَبِّهِ مُحِقَّاً “)،
سيكون الموت عندك كما قال القاسم: ( ” يا عم فيك أحلى من العسل ( أي في سبيل الحق أحلى من جميع ملذات الدنيا) “)
عندها ستكون كما قال العباس: (” لا أرهبُ الموتَ إذا الموتُ زقا “)
ومن ثم كما قال علي الأكبر: (” إذن لا نبالي وَقَعَ الموت علينا ، أم وَقَعْنَا على الموت “)،

– معنى كلمة رغب في معاجم الكتب: (“رغب الشيء أو رغب فيه : أحبه وأراده”، “رغب : حرص على الشيء وطمع فيه”).
– ( زَقا الطَّائِرُ ” : رَفَعَ صَوْتَهُ صائِحاً ).

(( السَّلام عَلَيْكَ يَا أبا عَبْدِ اللهِ وَعلَى الأرواحِ الّتي حَلّتْ بِفِنائِكَ ، وَأنَاخَت برَحْلِك، عَلَيْكًُم مِنِّي سَلامُ اللهِ أبَداً مَا بَقِيتُ وَبَقِيَ الليْلُ وَالنَّهارُ ، وَلا جَعَلَهُ اللهُ آخِرَ العَهْدِ مِنِّي لِزِيَارَتِكُمْ أهْلَ البَيتِ، السَّلام عَلَى الحُسَيْن ، وَعَلَى عَليِّ بْنِ الحُسَيْنِ ، وَعَلَى أوْلادِ الحُسَيْنِ ، وَعَلَى أصْحابِ الحُسَين ))