بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين
إن النفوس الكريمة الأصيلة لا تتغير بتغير الأحوال والأزمان من جهة التقوى، فإذا لم تزد فإنها لا تنقص، ومن جهة التواضع فإنها تبقى عليه حافظة لوفائها لمن حولها، ثابتة على هذه المبادئ الشرعية، حتى وإن وصلت إلى أعلى المناصب، أو بلغت ما بلغت من الأموال، وأما الزائف من النفوس فما أن يتبوأ صاحبها منصباً، أو يصبح ذا مال وثروة، حتى يتعالى على الخلق، ويتكبر عليهم، ويتنكر لهم، فينسى ما مضى، ينسى أصدقاءه وإخوانه، بل وأقاربه وأهله، هذه الأموال تغير النفوس، وكذلك المناصب، والشهادات، ودرجات الدنيا، وبعض الناس يكون في أمر من التواضع والتواصل مع أهله وإخوانه، وفجأة إذا حصل له تغير وظيفي، أو ترقية، فيتحول إلى شخص آخر، يتعالى على من حوله، لم يعد يستقبل معارفه إلا بطريقة توحي لهم أنه متبرم منهم، وأنه لا يريدهم، {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ} (سورة فصلت51)، فإذا أنعم الله على العبد بمال، وعافية، وفتح، ورزق، ونال العبد ما يريد، ويصبو، ويؤمل، فرح بالنعم، وبطر بها، وأعرض ونأى بجانبه عن ربه، لا يشكره ولا يذكره، ومثل هذا يظن أن ما حصل له من الدنيا تشريف، ويغفل عن كونه ابتلاء من الله تعالى، وأنه عبء ثقيل يتطلب أن يقوم بشكر نعمة ربه بما ابتلاه به، ودخل فيه من أمور الدنيا ونعيمها، وأنه ينبغي عليه أن يشكر هذه النعمة بالقيام بحقوق العباد بعد حقوق الخالق، ولو دامت لغيرك يا عبد الله ما وصلت إليك.
إنما الدنيا كظل زائل *** أو كضيف بات ليلاً فارتحل
فلا تغترن بمنصب، أو ترقية، أو شهادة، أو مال وربح صفقة، فهي مقادير تأتي وتذهب بمشيئة الرحمن، فإذا كان يشار إليك اليوم بالبنان فربما تكون غداً سيرة ذاهبة.
كان أحد أولئك القوم ممن له عبادة، وزهادة، وعلم، قبل أن يتولى ما تولى، لما أخبر بتوليه هذا المنصب العالي في الدنيا كان في حجره مصحف فأطبقه وقال: هذا آخر العهد بك، فشتان شتان بين من إذا جاءته الدنيا ازداد تواضعاً، وخدمة لعباد الله، وبين من يقول للمصحف: هذا فراق بيني وبينك، ألم يقل الله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (سورة الحج41)،.
نجح الأعمى في الابتلاء والامتحان، ولم يتغير ولم يتنكر، بينما سقط الآخران.
والحر لم يتغير ثروة وغنى *** والشمس رأد الضحى كالشمس في الطُفل
فالشمس اليوم كما كانت بالأمس، وهكذا لم تتغير، وأما من نسي حاله في أيام مرضه؛ لأن بعض الناس يتواضع في المرض، فإذا رزقه الله الصحة تكبر وتجبر، وبعضهم ينسى أيام فقره، وهذا قلة شكر، وكان الإنسان كفوراً، هذا من سجيته، ينسى النعمة، يجحدها إلا من عصى الله، فأين شكر النعمة، والاعتراف بها ونسبتها إلى المنعم، وحمده عليه، واستعمالها فيما يرضيه، والرفق بالفقراء.
تراني مقبلاً وتصد عني *** كأن الله لم يخلق سواك
سيغنيني الذي أغناك عني *** فلا فقري يدوم ولا غناك
إن الله ضرب لنا مثلاً، وأخبرنا عن أنواع من الشخصيات، ونماذج من الناس، {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} (سورة التوبة75-76) ، مع أن الله وسع عليه، وعاهد ربه لئن آتاه الله من فضله سيصل الرحم، وينفق في سبيل الله، ولكن لا فائدة فإن النفوس إذا كان فيها سوء سيظهر، وإنما تتغير النفوس لعدم أصالتها وخسة معدنها، أما النفوس العظيمة فتزداد حال الرخاء.
اللهم اجعلنا من الشاكرين، اللهم اجعلنا عند النعماء من الشاكرين، وعند البلاء من الصابرين، وعافنا يا أرحم الراحمين، اللهم اجعلنا ممن يعرفونك في السر والعلن، والشدة والرخاء، يا سميع الدعاء، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.