في معنى « مريم الكبرى » مريم الكبرى : لقد أقسم النبي مرارا أيمانا مغلظة ، وقال في فاطمة الزهراء سلام الله عليها « والله هي مريم الكبرى » .
هذا ; مع أن النساء العابدات المطيعات الزاهدات كثيرات في الأمم السابقة ، وقد ذكر القرآن الكريم جملة منهن ومدحهن وأثنى عليهن ; إلا أن النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) لم يجعل الزهراء ( عليها السلام ) قرينة لواحدة منهن ، إلا ما كان من مريم ( عليها السلام ) ; لأنها منتخبة منتجبة مصطفاة من نساء العالمين ، ثم إنها موصوفة بالعصمة ، وإنها سيدة نساء العالمين وأفضلهن ، وقد أثنى عليها الله بعفة النفس والصفاء والاصطفاء ، وجعلها فردا كاملا في النوع النسواني في العالمين .
وقد جعل النبي ( صلى الله عليه وآله ) الخاتم فاطمة أكبر وأكرم من مريم ، ولم يقل : أنها مريم ، بل قال : إنها مريم وزيادة ، فهي أكبر وأشرف وأفضل وأجلى وأقوى من مريم ، وسيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين ، وهذه الأفضلية والأشرفية لجامعيتها ، ولأنها أكمل في الملكات المحمودة والملكات المسعودة .
ويشهد لما ندعيه قسم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) المؤكد علاوة على إذعان المخالفين واتفاقهم على ذلك ، حيث رووا هذا اللقب الشريف والألقاب الأخرى ، وأكدوا على صحة الدعوى .
والخلاصة : مريم بنت عمران بن ماثان ، وهو غير عمران بن أشهم المنسوب إلى إسحاق بن إبراهيم الخليل ( عليه السلام ) ، وأمها حنة ، قال تعالى : ( وإذ قالت امرأة عمران ) أي حنة ، وأم حنة كما في الكافي مرتار ، وبالعربية وهيبة .
وحنة وإيشاع أم يحيى ( عليه السلام ) أختان كما ذكر العياشي ، وكان بين عمران بن ماثان وعمران أبي موسى أكثر من ثمانمائة سنة .
ومريم باللغة القديمة تعني العابدة ، وقال السيوطي في الإتقان: تعني « الخادمة » ، وقيل : المرأة التي تعادل الفتيان ، وهو اسم وضعته حنة أمها بعد أن وضعتها ، قال الله تعالى : ( وإني سميتها مريم ) .
وفي معنى الاسم دليل على نيتها الحسنة وسريرتها الصادقة حيث أرادت أن تجعل ولدها الذكر محمودا ، أي مقيما وخادما في القدس الشريف ليتفرغ إلى عبادة ربه ، فلما وضعتها أنثى وتبين لها أن الوليد يحقق المقصود و ( ليس الذكر كالأنثى ) قال الله : ( فتقبلها ربها بقبول حسن ) فرفع عنها المانع وكشف العلة وأعفاها عن العادة لتبقى مقيمة في بيت المقدس وتتفرغ لخدمته ، فلما اطمئنت حنة شكرت ربها وسمتها حسب ما سيؤول إليه أمرها « مريم » ، أي البنت التي صارت منذ بدو تكليفها محررة لخدمة البيت .
وبعبارة أخرى : إن المقصود من الولد الذكر هو ملازمة بيت المقدس والإقامة فيه ، فلما ارتفع المانع من البنت جرى عليها التكليف فتحقق الغرض وحصل المقصود .
ويدل قوله تعالى : ( إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم ) دلالة واضحة على أن أم مريم كانت قد نذرت أنها إن رزقت ولدا جعلته محررا .
وسبب نذرها كما في كتب التفاسير المعتبرة : أن حنة كانت عقيما ، فآيست من الولد ، غير أنها كانت تدعو الله دائما أن يرزقها ولدا ذكرا ، ورأت يوما طائرا على غصن يزق فرخه فرقت وتضرعت إلى الله وتوسلت إلى الرب القادر وعرضت حاجتها على رب القضاء ، وتوسلت بلسان الدعاء : أن يا رب يا قدير ألا تتفضل على هذه الضعيفة العاجزة وتمن عليها وترزقها ولدا يعبدك ويكون محررا لك ، فاستجاب الله دعاءها وأعطيت سؤلها وحملت بمريم المقدسة ، وقبل الله منها هذه الأنثى بدل الذكر .
ثم إن زوجها عمران كان موعودا بذكر ، فكانت مريم للأم وعيسى للأب كما ورد في الأخبار المذكورة في محلها .
لطيفة صغرى روي أن ثقة المحدثين الصدوق - عليه الرحمة - قارن في بعض مؤلفاته ورسائله الشريفة بين مريم ( عليها السلام ) والصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء صلوات الله عليها ، غير أنها لم تصل إلينا ، ولكن العلامة المجلسي أشار إليها في المجلد العاشر من بحار الأنوار .
لقد أراد هذا الحقير الغارق في التقصير أن يكون له نصيب في هذا الموضوع فأقدمت - معترفا بالجهل والعجز الكاملين - على استنطاق الكتاب والسنة للمقارنة بين هاتين السيدتين المعصومتين وتقرير صفات الكمال الموجودة في كل واحدة منهن ، وذلك في ذيل الخصيصة التي استعرضت فيها النساء المذكورات في الذكر الحكيم ، ولكني ارتأيت الإشارة في هذه الخصيصة إلى لطيفة أخرى ، وقد أشار إليها - بإيجاز - العامة والخاصة في كتبهم التفسيرية ، وهي : لماذا أعرض القرآن الكريم عن التصريح بأسماء النساء واكتفى بالوصف والإشارة ، بينما صرح باسم السيدة مريم ( عليها السلام ) في عشرين موضعا بصيغة الخطاب وبغيرها من قبيل : ( واذكر في الكتاب مريم إذا انتبذت من أهلها مكانا شرقيا ) .
( يا مريم إن الله اصطفاك)
وقوله تعالى : ( يا مريم اقنتي لربك )
وقوله تعالى : ( وقالت الملائكة إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم )
وقوله تعالى : ( ما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم )
وقوله تعالى : ( يا مريم لقد جئت شيئا فريا )
وقوله تعالى : ( إني سميتها مريم )
ونظائرها من الآيات الكريمة ؟ ! الجواب : لقد عثرت على وجهين في كتب الفريقين في مقام الجواب على ذلك ، أذكرهما على نحو الإيجاز : الوجه الأول : أن الملوك والسلاطين لا يدعون الحرائر والعقائل من ذوات البيوتات بأسمائهن في الملأ العام والمحافل ، وإنما يدعونهن بالألقاب والكنى إعظاما وإكراما - كما ذكرنا ذلك في الحديث عن سبب الخطاب بالكنية - فينبغي أن يبقى اسم الحرة المحترمة محجوبا مستورا كشخصها ، خلافا للإماء والجواري حيث لا يتضايق السادة من ذكر أسمائهن على رؤوس الأشهاد ، ولما كان النصارى يعتقدون بعيسى وأمه مريم أنهما ابن الله وزوجته ، وينسبونهما للحق تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، فقد وصف الله سبحانه عيسى ( عليه السلام ) في القرآن الكريم بصفة العبودية ، وأجرى ذلك على لسانه حيث قال ( عليه السلام ) : ( إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا ) ، وكذلك وصف مريم بالعبودية وخاطبها بهذه السمة ، ليعلم النصارى أن تلك المستورة العظمى كباقي النساء أمة من إماء الله وابنها عبد من عبيده ، ونسبتهما إلى الله ذي المنن نسبة العبودية لا نسبة البنوة ولا الزوجية ، وهذا لا يعني أن الله حقر مريم في القرآن ، بل ذكرها وصرح باسمها وأمرها بالطاعة والعبادة تعظيما لها .
والغرض من تكرار اسمها والتأكيد عليها بالامتثال والإطاعة لإثبات العبودية والإئتمار ; ليعلم النصارى أن مريم امتازت في العبادة ولم تتميز في العبودية ، وإنما هي من عبيد الله ، ولا نسبة بينها وبين الساحة المقدسة لحضرة ملك الملوك ورب الأرباب ، خلافا لما توهمه النصارى حينما جعلوها أقنونا من الأقانيم الثلاثة ، حتى عرف بعضهم ب « المريمية » ، ولا تزال بقايا منهم في المغرب إلى يومنا هذا .
الوجه الثاني : قال السهيلي في تعريف الأعلام من كتاب « أسئلة الحكم » : إن السبب في تكرار اسم مريم في القرآن الكريم أن الله أكرم مريم بكرامات باهرة وآيات زاهرة ، ونزهها من النقائص والكدورات النسوية ، وهذبها وقبلها قبول الذكر المحرر ، وجعلها في عداد الأنبياء العظام ، وخاطبها خطابات صريحة مباشرة ; ليعلم أن القدرة الربانية الكاملة يمكن أن تجعل المرأة في عداد الأنبياء بعد رفع الموانع وطهارة الذيل وكثرة التقوى وشدة الإيمان ، فتكون مثل إبراهيم وعيسى وموسى وداود ( عليهم السلام ) يتوجه إليها الخطاب : ( يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ) .
وهذا الوجه قريب من مشرب بعض العلماء العامة الذين ذهبوا إلى القول بنبوة مريم ، وأنها من الأنبياء العظام ، واستدلوا لذلك بالخطابات القرآنية .
وهذا الرأي على خلاف مذهب الإمامية ، وبطلان دعوى أولئكم بين واضح ، قام عليه الدليل والبرهان ، حيث أن النساء مهما بلغن من الكمال في الإيمان لا يكلفن بتكاليف الرجال ، ولا يمكن أن يأتين بشريعة ، فللرجال تكاليفهم وأحكامهم ومهامهم ، وللنساء تكاليفهن وأحكامهن ومهامهن .
والأفضل الإعراض عن هذا الحديث والعودة إلى صلب الموضوع .
نقول : إن مريم أفضل من جميع النساء ، وفاطمة الزهراء ( عليها السلام ) أفضل من مريم ومن جميع نساء العالمين ، وكثرة التصريح باسم مريم في القرآن لا يدل على أنها أفضل من فاطمة ( عليها السلام ) التي لم يصرح باسمها في القرآن ، واحتجاب اسمها المبارك واختفاؤه دليل على عظمة ذاتها وشرف حالاتها ، وهي المستورة الكبرى ، كما أن ثبوت هذه الفضيلة لفاطمة ( عليها السلام ) لا تنفى علو مرتبة مريم ( عليها السلام ) ، وقد ذكرنا علة ذكر اسمها .
ولا يخفى على القراء الكرام أن القرآن ذكر الزهراء ( عليها السلام ) في آيات عديدة - مفردة ومنضمة إلى آخرين - وصفها الخلاق العليم بأوصاف كمالية وأثنى عليها . وقد استوفى المفسرون من الفريقين البحث في هذه الآيات : وذكروا أدلتهم وشواهدهم على ذلك ، كما في آية التطهير وآية المباهلة وآيات سورة هل أتى ، وسنستوفى البحث فيها كلا في محله إن شاء الله تعالى .
ولا يخفى أيضا أن قول النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « فاطمة مريم الكبرى » مدح واضح لمريم ( عليها السلام ) حيث جعل الفضل محصورا عليها ، وكأنه قال : إن كان شرف أمة عيسى ( عليه السلام ) في مريم ، فإن لهذه الأمة المرحومة مريم أيضا إلا أنها أشرف وأفضل ، أما أفضليتها من الجهة الذاتية فواضح لا غبار عليه وأما أفضليتها من الجهة الخارجية فيكفيها شرف البنوة والانتساب إلى خاتم الأنبياء والمرسلين ، والزواج بخاتم الأوصياء المرضيين وملازمته ، وأمومة الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين ، وكثرة ذريتها الطيبة إلى يوم الدين .