كثيرة هي الدراسات والمقالات الأكاديمية والصحفية التي تتطرق للجنة عند العرب والمسلمين، وتدرس أوصافها وعوالمها، ولكن هذه المقالة تتناول جهنم، النار التي تخيلها المسلمون مقرّاً للعقاب الأبدي.
الجحيم في عيون أهل الجاهلية
لم يكن مفهوم "النار" غائباً عن العرب الأوائل قبل الإسلام، بلغهم من خلال اجتهادات الأحناف واليهود والنصارى، حتى أصبحت كلمة "جحيم" ليست بالغريبة عليهم.
يقول الباحث الموسوعي جواد علي في "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام"، إن لفظة جهنم استقاها العرب من جيرانهم أهل الكتاب، وهي تعني "الموضع الذي يكون فيه العذاب بعد الحشر"، واعتبر أن الكلمة عبرانية مشتقة من وادٍّ بالقدس يُدعى "جهينوم" Gehinnom، كان الوثنيون يقدمون فيه القرابين لآلهتهم.
ويضيف أن بعضاً من أشعار العرب وردتنا تتحدث عن ذات المفهوم، مستشهداً بقول المحارب الحماسي عنترة بن شداد:
"مـاءُ الـحَياةِ بذِلَّةٍ كَـجَهَنَّمٍ وَجَـهَنَّمٌ بِـالعِزِّ أَطـيَبُ مَنزِلِ"
ثم يضيف عليه ابن عساكر في كتابه "تأريخ دمشق"، شيئاً من شعر أمية بن أبي الصلت، قال فيه:
"جهنم لا تبقى بغيا وعدن لا يطالعها رجيم"
وبيت آخر له: "فلا تدنو جهنم من بريء ولا عدن يطالعها أثيم"
جحيم الآخرين وجحيمنا
لا تكاد تخلو حضارة إنسانية من "جهنم" تنتظر أشرارها بلهيبها وقعرها، يفصلها جورج مينوا في كتابه "تاريخ جهنم"، قائلاً إن الجرمانيون ظنُّوا أن مكاناً تحت الأرض سيُخصص لعذاب أبدي بحق العصاة أسموه "هِل"،
وتكشف ملحمة جلجامش معتقد أهل ما بين النهرين عن جحيم "مظلم مشحون بالغبار"، كما فصّلت ترنيمة زرادشت مصير الخاطئين في مكان به "ظلمات تدوم طويلاً، طعام نتن، صرخات يأس"، فيما وصف الفراعنة "جحيمهم" بدقة في جداريات مثلت الأشرار "محشورين في أماكن ضيقة حيث يعبق نتن لا يطاق" ويخضعون لعذابات قاسية كالرمي في بحيرات من نار والحرق بألهبة الأفاعي.
ونلاحظ بعض التشابه بينها وبين "نار الإسلام"، فالإسكندنافيون اعتقدوا أيضاً أنها قائمة الآن في مركز الأرض، ولكنهم اختلفوا في تقسيم طبقات العمق إلى تسعة وليس سبعة، أما الشمانيون، وهم شعوب جبلية عاشت في التبت ومنغوليا، اعتقدوا أيضاً أن البشر يمشون فوق جهنم على جسر ضيق جداً، "بعرض الشعرة، يمتد فوق هاوية سحيقة يسقط بها المخطئون"، شاركهم المعتقد والتشبيه المزدكيون، مع اختلاف وضعية "السيف" فالصالح سيسير على صفحته والمخطئ على حدِّه.
بالمثل، ظنَّ التبتيون أن النار ستكون محاطة بـ"سراق"، ولكن بتسعة أسوار وليس أربعة، كما تروي لنا الأساطير السومرية زيارة الإلهة إنانا إلى أختها إرشكيغال في النار، وكيف أنه كان عليها أن تجتاز سبعة أسوار ضخمة قبل أن تتمكن من الدخول.
ويوافق التلمود القرآن على أن الجحيم مكون من سبعة منازل فوق بعضها البعض، لكنه يخالفه في أن كل منزلة تزيد قوتها عن التي أسفلها 6 أضعاف. وفي سِفر "رؤيا القديس بطرس" (كُتب بين عامي 125 و150 م) عن رؤيته للجحيم، ومنها "نساء معلقات من شعورهن فوق طين يغلي" وهو شبيه بالمشهد الذي ورد عن الرسول الكريم بحق نساء معلقات من رؤوسهن في شجر الزقوم، في أحاديث متباينة الصحة.
فيما تؤكد الأوديسة، أن بطلها عوليس رأى "تيتوس ابن الأرض الممجدة، كان يرقد على الأرض ويغطي بجسده مساحة تسعة فدادين"، هذا التضخم في الحجم كان شبيهاً بما رواه مسلم، أن الرسول قال إن ضرس الكافر سيكون "مثل أحد" وعرض جلده "سبعون ذراعاً"، وعلّق النووي على هذا الحديث مبرراً هذا العملقة كي يكون العذاب "أشد إيلاماً".
نار الإسلام بتفاصيلها وتوصيفها
رغم التقاطعات القليلة مع تصور النار في الثقافات الأخرى، إلا أنها تبدو مبسطة مقارنة مع ما قدمته الحضارة الإسلامية، فبعد امتداد خيمتها شرقاً وغرباً، ومع تطور تصورها للكون والقيامة والجنة والخلود، أنتجت تصوراً موسعاً ودقيقاً للنار كذلك: فأسهب تراثها الديني في وصف كافة تفاصيله؛ فهي، النار، جهنم، السعير، لظى، الحطمة، الهاوية، الوعيد الأعظم الذي ستُشوى به جلود الذين كفروا، حيث يأكلون الزقوم ويشربون الحميم والمُهل، ويلبسون النار ويعذَّبون بها.
يقدِّم لنا القرآن والأحاديث النبوية صورة متكاملة عن جحيم حين رآه الرسول يوماً أكد للصحابة أنه "لم يرَ منظراً أفظع من ذلك" (صحيح البخاري)، وهو حفرة هائلة أُوقِد عليها 3 آلاف سنة حتى صارت أسود من الليل المظلم (سنن الترمذي)، تقع الآن في أعمق بقاع الأرض السابعة، نلمَسُ آثارها في دنيانا بالحمى إذا أصابت الناس، وبنَفَسين صيفاً وشتاءً، هما أشد ما يكون الحر وأصقع ما يكون الزمهرير (رواهما البخاري).
تظهر إطلالتها الكبرى يوم القيامة؛ يتصاعد منها الشرر العظيم كالشهاب، وهي تتوعد منتظري الحساب "هل من مزيد؟" (صحيح مسلم)، من فرط ظمأها تكاد تأتي على "كل بر وفاجر" كما ذكر ابن عباس، لولا حشدٌ من 5 ملايين ملاك يُلجِّمونها بـ70 ألف زمام، بالإضافة إلى "سُرادق" يحيط بها إحاطة السوار بالمعصم، وهو أربعة جُدُر متتالية كثافة الواحد منها مسيرة 40 عاماً.
أبوابها السبعة المستقرة فوق بعضها البعض كأدوار البنيان، وفقاً لما أورده القرطبي عن الإمام علي، ما أن تلمح الوافدين حتى تتفتح في اشتياق، يحرسها 19 من الخَزَنة "الغِلاظ الشداد" يتوعَّدون أفواج العُصاة لأنهم لم يصدِّقوا أنبياء الله، بالتأكيد سيكون منهم القرشي العتيد أبو الأسد الجمجي، الذي كفَر بدعوة النبي وعاهَد أبا جهل، على أنه وحده كفيل بقتل 17 من هؤلاء الزبانية، أملاً في درء قومه شر النار.
أيقن طبعاً أن تهديداته الدنيوية أكثر من جوفاء، فالواحد من الخَزَنة "لو برز إلى أهل الدنيا فنظروا إليه لماتوا من قبح وجهه ومن نتن ريحه" وفقاً لحديث جبريل للرسول الذي أورده الطبراني في الأوسط. وهذا يأتي كمقابل لوصف المسك والعنبر كعطور للجنة ومنبع لذة وابتهاج لساكنيها.
ويسرد القرطبي حديثاً آخر في وصف حراس النار، أن "ما بين منكبي أحدهم كما بين المشرق والمغرب" ثم يزيد على لسان ابن عباس أن الضربة منهم تطيح بـ70 ألف إنسياً مرة واحدة.
سيُقاد "الجمجي" بأغلال نار تحيط بعنقه، فوق طريق "سهل بسهوة" (لا وعورة فيه) كما روى عنه الإمام أحمد، ضمن زُمُر الكَفَرة "يدعون (يُدفعون) دعَّا" (سورة الطور) إلى الهاوية، يؤخذ الرجال من لحاهم والنساء من شعورهن، تكاد تتشقق ألسنتهم من العطش وتضج أجسادهم من فرط الزحام فمن كل مئة سيقت 99 نفساً إلى مصيرها المشؤوم.
مهما اعترف أصحاب السعير بذنوبهم لحظتها "سحقاً لهم"، فات الأوان والدركات السبعة تُملأ كلٌّ بما عمل، ثم تغلق من بعدهم فإنها "عليهم مؤصدة" (سورة الهمزة) للأبد لهم فيها "زفير ولا يَسمعون" (سورة الأنبياء) لا يموتون فيها ولا يحيون.
أثناء هبوطهم يملأ شهيقها وفورانها آذانهم، فيما تسرق أعينهم الألسنة الصخرية العملاقة التي تبرز في كل ركن تمتلىء بـ"حيات كالبُخت (أسنمة الجمال) وعقارب كالبغال" (تخريج ابن أبي الدنيا)، سيئو الحظ تنتظرهم رحلة طولها 70 عاماً، فقط حتى يبلغوا القَعر لو كانوا بسرعة الصخرة التي سمع صوتها الرسول في رحلة الإسراء والمعراج (صحيح مسلم)، أمّا الأفضل حظّاً بقليل فهم من ينتظرهم "الويل" وهو واد في جهنم لا تزيد المسافة إلى قعره عن 40 عاماً، كما أورد البخاري في صحيحه.
كيف نستدل من أشكال العذاب على قيم المجتمع الذي تخيله؟
كلٌّ عرف طريقه، فما في النار بيت ولا سلسلة ولا مقمع ولا تابوت إلا وعليه اسم صاحبه، وفقاً لما رواه ابن مسعود في كتابه "يقظة أولي الاعتبار" للشيخ صديق القنوجي. من المثير في توصيف النار، الدقة والتنظيم فيها، وهو ما يكشف أنها نتاج لمجتمع منظم، تحكمه قوانين وأنظمة واضحة.
يقول أبو نعيم الحافظ في كتابه "حلية الأولياء": "لا تستقر أقدامهم على قرارها أبداً، ولا ينظرون إلى أديم سماء أبداً، ولا يلتقي جفونهم على غمض نوم أبداً". ويبدو أنّ وصف أبي النعيم الذي عاش بين القرنين العاشر والحادي عشر الميلادي يعكس الاستقرار والراحة كقيم اجتماعية تدلل على الحياة الهانئة، التي يعاقب الناس بحرمانها.
في المستقر الأخير يبدأ العذاب الحقيقي، لا يجدون لهم فيه "ولياً ولا نصيراً" (سورة الأحزاب)، حيث الدموع التي تحفر أخاديد في الوجه، والأنين الأبدي بالنار والندم الأبدي على الذنب والطموح الأبدي للعفو، "لا يُقضى عليهِم فيموتوا ولا يُخفَّفُ عنهم" (سورة فاطر). من أشكال العذاب نتعرف على القيم التي كانت تعتبر أساسية للحياة الكريمة، وعلى رأسها النصرة، أي أن يكون للإنسان من يسانده ويعاضده ويدعمه، وهو ما يفتقده أهل النار كعقاب لهم.
تتعدد أشكال العقاب أهونه "رجل في أخمص قدميه جمرتان يغلى منهما دماغه كما يغلى المرجل بالقمقم" (صحيح مسلم)، وأشنعهم ينغمس العذاب حتى يصير فحماً.
صحيح أن أكثر أهل النار يذكرون بصيغة العموم، إلا أن حديث الرسول في إحدى خُطبه اختصَّ عمرو بن مالك بالذِكر، وأكد أنه رآه "يجرُّه قصبه في النار" (صحيح مسلم)، ليكون ضمن قِلة ذكرتهم المراجع الدينية بالاسم كمُستحقِّين مؤكدين للجحيم، مثل أبي لهب، وفرعون وآله، وهامان وجنوده، وغيرهم ممن ذُكروا حتماً في الكتاب الذي عرَضه الرسول على عبد الله بن عمرو، وأكد له أنه يحوي أسماء كل أهل النار (أخرجه الترمذي).
ولم تكن هذه المرة الوحيدة التي يُحكى عن وجود بعض رجالات قريش بالنار، فيسرد لنا عبد الله بن عمر الرؤية التي بارَكها النبي حين سمعها ورأى فيها جهنم، وزعم أنها "مطوية كطي البئر" يقف عليها ملائكة مسلَّحين بمقامع من حديد، وتعرَّف بداخلها بعض أهل قريش مُعلَّقين من أرجلهم في السقف بالسلاسل، فيما تتدلى رؤوسهم إلى أسفل.
يقول ابن عباس، إن العذاب "نزَّاع للشَوَى" يسلخ كل شيء في أجساد العصاة من جلد ولحم وعرق فلا يُبقِي ولا يذر. إذا احترقت جلودهم وكفّت عن استيعاب الألم، بُدِّلوا غيرها كي تدور العجلة من جديد بلا توقف، حتى تتقلص شفتي الواحد منهم فتبلغ العليا وسط رأسه والسفلى صُرته، فيما تستعرض سورة المدثر نوعاً آخر من العذاب ذي لمسة سيزيفية وهو "الإرهاق صعوداً"، الأمر الذي فسَّره أهل العلم بأنه جبل من نار يصعد عليه المذنبون المغلولون بالأصفاد، وما أن يبلغوا قمته حتى يُؤمروا بالنزول ومعاودة الكرَّة من جديد، وهكذا.
البعض وُعد بعذاب محدد، فيروي الطبري عن الرسول وصفه لعقاب آكلي أموال اليتامي، وظهورهم بـ"مشافر" الإبل تقذف صخور النار في أفواههم ثم تخرج من مؤخراتهم، وهم لا يتوقفون عن الصراخ.
الرياح "سموم" شديد الحرارة تلفح الجميع بلا رحمة وتجعلهم لا يذوقون برداً أبداً، والرداء ثياب من نار، إلا من تنوح بالجنائز ولم تتب فمصيرها "سربال من قطران، ودرع من جرب" (صحيح مسلم)، نفس العقاب توعد به الله أيضاً المشركين في سورة إبراهيم حين نراهم مقيدين بالأصفاد و"سرابيلهم من قطران".
الطعام "ذو غصة" يُزيد العذاب فهو إما شوك "لا يُسمنُ ولا يُغني مِن جُوع" أو غسلين (صديد) أو ثمرة على شكل شيطان من شجرة الزقوم، القطرة الواحدة منها لو ظهرت "لأفْسدتْ على أهلِ الدنيا معايِشَهُمْ" (رواه الترمذي). وهنا أيضاً نرى تقابلاً مع توصيف الجنة التي تقدم لساكنيها كل ما تشتهيه نفوسهم من أطياب الطعام.
أما الشراب فهو "يقرب إلى فيه فيكرهه، فإذا أدنى منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه، فإذا شربه قطّع أمعاءه" (رواه أبي أمامة)، تقتصر أصنافه على الحميم أو ماء صديد أو مُهل "يشوي الوجوه" أو "غساق" مُر من القيح لو أن دلواً منه سُكب في الدنيا لأنتن أهلها (رواه الترمذي)، فيما اختُصَّ مدمنو الخمر بمشروب آخر اسمه "طينة الخبال" وهو عصارة أهل النار (صحيح مسلم)، أو بسقاء من أنهار النار الأخرى "غي" و"أثام" و"موبق" المكونة من الدم والقيح. بينما نرى أنهر العسل واللبن في الجنة متوفرة بكثرة لساكنيها.
إن تأملنا قليلاً في هذا الوصف لجهنم، نستدل إلى أنّ العرب لم يتركوا باباً للتفسير والتخيل لم يتطرقوا إليه، ولم يتوقفوا عند الأدلة القليلة التي بين أيديهم، بل بنوا عليها وتوسعوا في ربطها ببعضها لتعطي صورة متكاملة، تكاد أوصافها تخرج من صفحات التراث وترتسم أمامنا صوراً وأصواتاً وألواناً من اللهيب والنار.
صورة المقالة جزء من عمل للفنان بيتر بوغل الأكبر، الذي كان يعرف بفنان "الجحيم" لكثرة أعماله التي تتناول موضوع النار، العمل من مقتنيات المتحف الملكي في بروكسل.