حفل التاريخ بالكثير من الثورات والنهضات الكبيرة، بيد أنّ ما حظي منها ما حظيت بها نهضة كربلاء، والسائل عن عظمة عاشوراء وسيطرتها على قلوب وأفكار الملايين وما هو ســرّ جاذبيتها، ليس لدى الشيعة فحسب بل ولدى باقي المذاهب الإسلامية وحتى أتباع الديانات الاُخرى؟ فجوابنا أولاً: السّمة الإنسانية العظمى، وثانياً: المظلومية الحقة التي اتسمت بهما هذه الثورة، والتي جعلتها قدوة لطلاب الحق وأنصاره، فانظر ما كتبه المفكر أنطوان يارا عن الامام الحسين بن علي في كتابه الشهير "الحسين في الفكر المسيحي".
أولاً: واقعة كربــلاء لم تكن موقعة عسكرية انتهت بانتصار وانكسار، بل كانت رمزاً لموقف أسمى لا دخل لــه بالصراع بين القوة والضعف، بين العضلات والرماح، بقدر ما كانت صراعاً بين الشك والإيمان، بين الحق والظلم.
ثانياً: آثـر الحســين صلاح أمة جده الإنسانية الهادية بالحق العادلة به على حياته، فكان في عاشوراء رمزاً لضمير الأديان على مر العصور.
وهكذا ساعات مضت على أرض كربــلاء، لتسجّل للتاريخ ثروة حافلة بعاصفة من السيوف والسهام والرماح، خلّفت وراءها تلك المسيرة من الدموع والجراح والألم، فرحل سيد الشهداء بعد أن ارتدى الباطل قناع الإسلام، وراح يشدّ وثاقه بحبال العصبية الأولى، وفجعت كربلاء يوم انتهت المعركة، لتبتدئ مسيرة الطف من جديد، وتدكّ هذه الأرض التي انتقلت إلى أرض الشام بعد أن تواصلت تلك الأنفاس بصبر النفوس التي لم تخذل.
لقد كان لواقعة كربلاء أن تبقى في ذاكرة الآخرين، وهي تشهد ذلك المصاب الذي بكته السماء يوم كان النموذج الأعلى للتفاني من أجل رفعة الإنسان وحمايته، وراحت تلك الكلمات تحفر في الحياة نشيد الأمل وتوقف هزيمة المتخاذلين أمام ذلك المعنى الذي استوعب شهادة الرسل والأنبياء، فكانت الرمال حاضرة في قصائد الفاجعة تسجل معها تلك المواقف، وأولئك الرجال الذين عاهدوا الله فقدّموا أرواحهم فداءً للثورة الحسينية، فارتبط ذلك اليوم بضمائر العالم أجمع، وهزّ النفوس بعد أن تركت تلك البصمات المشرقة في صفحات التاريخ سبيلاً للتحرر من العبودية والطغاة.
إنّ أكثر ما استأثر باهتمام الناس من ثورة الامام الحسين هو جانب القصة فيها، بما اشتمل عليه من مظاهر البطولة النادرة والسمو الانساني المُعجز لدى الثائرين وقائدهم العظيم، المتمثل في التضحية بكل عزيز من النفس والمال والدِّعة في سبيل المبدأ والصالح العام، مع الضعف والقلة واليأس من النصر العسكري، وما اشتمل عليه من مظاهر الجبن والخسة والانحطاط الانساني لدى السلطة الحاكمة وممثليها الأنذال، في تنفيذ جريمتها الوحشية بملاحقة الثائرين واستئصالهم بصورة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، وما اشتمل عليه من الأمثلة الفريدة على الحب، حبّ الثائرين لجلاديهم وإشفاقهم عليهم من السلطة الجائرة التي تستخدمهم وتغرر بهم وتدفعهم الى حرب القوى التي تريد لهم الخير والصلاح، و حبّ الثائرين بعضهم لبعض، بحيث يدفع كلٌ منهم الى طلب الموت قبل صاحبه لكي لا يرى صاحبه مقتولاً قبله، يقابل ذلك أبشع مظاهر الحقد والبغضاء لدى الحاكمين وأعوانهم المتمثلة في حرمان الثائرين وأطفالهم من الماء وفي قتل النساء والاطفال.
من الغبن أن لا نرى في قضية النهضة الحسينية الخالدة إلا جانباً واحداً فقط، وهو الجانب المأساوي الحزين - رغم قدسيته -، دون أن ندع جانب الفكر والموقف والقدوة ينطلق ليشكل تفاعلاً منسجماً بين الفكر والعاطفة، فهدف الإمام الحسين من واقعة كربلاء كان إصلاح هذه الأمة والعمل على تغيير الواقع السيء إلى واقع الحق، وقد قال الامام الحسين : «إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)»، وعليه فإن من الظلم العظيم والتصور الواهي أن نسبغ على القضية الحسينية ثوباً طائفياً أو إقليمياً أو قوميا، أو حتى مجرّد حدثاً تاريخياً جرى في حقبة من الزمن ثم تلاشى.
إن المنصف والمتمعـّن بموضوعية لا يرى في مسيرة الحسين إلى كربلاء إلاّ قضية إنسانية أصيلة، حيث جسّد فيها الإمام الإخلاص والحب والتفاني للرسالة الإلهية، ورسم بدمه الشريف صورة مشرفة ونموذجاً رائعاً لأمتنا اليوم في صراعها مع الباطل، فالقضية الحسينية ستبقى خالدة ومستمرة مع استمرار أي انحراف في خط الرسالة، والتي اختلط منهجها بمنهج جده محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي خاطب الأمة بأن «حسين مني وأنا من حسين».
وتجدر الإشارة هنا إلى الأم التي علمتنا منذ طفولتنا أن نحب الحسين، ذلك الحب الحزين الذي خالطه الإعجاب والإكبار والشجن، ويثير في النفس أسىً غامضاً وحنيناً خارقاً للعدل والحرية والإخاء وأحلام الخــلاص، فطوبى لكِ أيتها الأم الحسينية.
نعـم.. قِـلـّة هم أولئك الذين يتسنّمون قمم الخلود والسّمو والعظمة، وقلة هم أولئك الذين ينفصلون عن آخر الزمان والمكان ليكونوا ملكاً للحياة والإنسان، أولئك القلة هم عظماء الحياة وأبطال الإنسانية، ولذلك تبقى مسيرة الحياة ومسيرة الإنسان مشدودة الخطى نحوهم، وما أروع الشموخ والسمو والعظمة إذا كان شموخاً وسمواً وعظمة صنعه إيمان بالله وصاغته عقيدة السماء.
من هنا كان الخلود حقيقة حية لرسالات السماء ولرسل السماء ورجالات المبدأ والعقيدة، ففي دنيانا تاريخ مشرق نابض بالخلود، وفي دنيانا قمم من رجال صنعوا العظمة في تاريخ الإنسانية وسكبوا النور في دروب البشرية.