لا يزال حلم الشباب الأبدي يراود البشر ويستحوذ على اهتمامهم على مدار آلاف السنين، ولكن ماذا سيحدث لو استطعنا بالفعل أن نوقف عملية الشيخوخة؟
في خمسينات القرن التاسع عشر، لم يكن متوسط العمر المتوقع في الولايات المتحدة عند الولادة يتجاوز 40 عاما، ولكن المواطن الأمريكي العادي الأن من المتوقع أن يعيش 78 عاما على الأقل.
وقد قدم لنا بحث طبي نُشر مؤخرا وعودا براقة بالتوصل لعقار جديد يمكنه إطالة أعمار البشر أكثر مما هي عليه الآن. فما هي آثار ذلك العقار الجديد الذي عرضه هذا البحث، وما هي تبعاته على المجتمع؟
وقد رسمت لنا أفلام، مثل "هروب لوغان" و"سويلنت غرين"، صورا كئيبة للتضخم السكاني في العالم مستقبلا، إذ تصورت وضع إجراءات قاسية للسيطرة على العالم المكتظ بالسكان وموارده الشحيحة.
لكن الحاجة لوضع تدابير صارمة لإبقاء معدلات النمو السكاني تحت السيطرة لم تكن محض خيال، إذ فرضت الصين سياسة الطفل الواحد، بعد الانفجار السكاني الذي شهدته في السبعينات من القرن الماضي، والتي ظلت سارية المفعول حتى وقت قريب.
ربما يظن المرء أن ارتفاع متوسط العمر في مجتمع ما سيؤدي إلى زيادة عدد السكان، ولكن هذا غير حقيقي. فالنمو السكاني يعتمد على معدل المواليد أكثر من اعتماده على معدل الوفيات.
وتقول جين فولكينغام، الأستاذة والمديرة بمركز التغير السكاني التابع لجامعة ساوثهامبتون: "لا ننكر أن انخفاض معدل الوفيات، على المدى القصير جدا، سيسهم في النمو السكاني. ولكن معدل المواليد، على المدى الطويل، هو الذي يزيد من معدلات النمو السكاني وليس معدل الوفيات".
وأشارت تجارب معملية أجريت على فئران مؤخرا أن الحيوانات المصابة بمرض السكري، التي تناولت عقار "ميتفورمين"، الذي طرح للمرة الأولى في عام 1957، تعيش لسنوات أطول من الحيوانات غير المصابة بمرض السكري ولم تنتاول العقار.
ولذا، اقترح الباحثون أن عقار "ميتفورمين" قد يحمي من أعراض الشيخوخة والأمراض المرتبطة بها، وليس النوع الثاني من مرض السكري فحسب.
ولكن ثمة علاجات صيدلانية محتملة قد لا تحمينا من علامات الشيخوخة فحسب، بل قد تمحو آثارها من الجسم أيضا.
رغم التقدم الهائل في العلوم الصحية، لا تزال قدرة الجسم البشري على التحمل والاستمرار محدودة
وحظيت تجارب نقل الدم من مانحين شباب إلى مسنين، على غرار مصّاصّ الدماء، ببعض التأييد الطبي. وكان الطبيب الألماني أندرياس ليبافيوس أول العلماء الذين استهوتهم خصائص الدم وقدرته على تجديد الحيوية والنشاط في الجسم، وفي عام 1615، بحث توصيل شرايين رجل مسنّ بشرايين شاب.
وكان ليبافيوس واثقا من النجاح، وأظهرت نتائج تجارب أجريت في عام 2005، أن تلك الفكرة القديمة كانت واعدة. فإن الفئران المسنّة التي نقل إليها دم فئران فتيّة غدت أكثر نشاطا وحيوية، في حين أن الفئران الفتيّة التي نقل إليها دم الفئران المسنّة، أصبحت أسوأ حالا. لكن علينا ألا نغفل المخاطر المصاحبة لنقل الدم، مثل إصابة الرئة وانتقال العدوى.
وقد طُورت أساليب علاجية جديدة لا تثير هذا القدر من الجدل وأثبتت فعاليتها مرات عديدة في التجارب المعملية.
وأثبتت إحدى التجارب أن الفئران التي أزيلت منها الخلايا "الهرمة"، أي التي توقفت عن الإنقسام لإنتاج خلايا جديدة، من خلال حقنها بمركب
"Foxo4-DRI" تعيش لسنوات أطول. وهذا المركب يعيق العملية الطبيعية التي تؤدي إلى توقف الخلايا عن الإنقسام.
ورغم أن الفئران التي تلقت هذا المركب تبلغ من العمر الآن 30 شهرا، ما يعادل مئة سنة لدى البشر، فإنها تتمتع بنشاط وقوة، وهذا يثبت أن أثر هذا المركب ليس مؤقتا.
يقول بيتر دي كيزر، بقسم علم الوراثة الجزيئية بالمركز الطبي التابع لجامعة إيراسموس الهولندية: "إذا استهدفت الخلايا التي تسمى بالهرمة التالفة، وهي خلايا غير مرغوب فيها لأنها أصبحت تالفة وغير قابلة للمعالجة، فسوف تطيل السنوات التي تتمتع فيها بصحة جيدة، وفوق ذلك من الممكن أيضا أن تستعيد صحتك إلى حد ما".
ويضيف: "من خلال التخلص من هذه الخلايا، لن نؤخر ظهور علامات الشيخوخة فحسب، بل يمكن أيضا معالجة بعض الأعراض على الأقل المصاحبة لتقدم العمر".
وفي الوقت نفسه، تعتزم شركة "كاليكو" للأبحاث والتنمية، التابعة لمجموعة شركات "ألفابيت"، التي تضم شركة "غوغل"، تسخير التكنولوجيا الحديثة من أجل فهم العوامل البيولوجية التي تتحكم في طول عمر الإنسان، واستخدام هذه المعلومات لتطوير عقاقير أو تدخلات جراحية تساعد الناس على العيش لسنوات أطول والتمتع بصحة أفضل.
فما هي الآثار التي ستترتب على نجاح هذه التقنيات في إطالة عمر الإنسان؟
لعل إحدى القضايا التي تكتنف إطالة أعمار البشر هي زيادة تداعيات التضخم السكاني، الذي يمثل أحد التحديات التي يواجهها العالم في القرن الحادي والعشرين.
نقل الدم من مانحين شباب يؤثر تأثيرا إيجابيا على صحة المرضى المسنين
وفي عام 2015، كان متوسط عدد المواليد في إنجلترا وويلز، نحو 1.8 طفل لكل أم. ومع انتشار التعليم وتطور الخدمات الصحية في المجتمع، تراجعت الضرورة البيولوجية لإنجاب الكثير من الأطفال من أجل تعويض المتوفين منهم.
كما زاد متوسط عمر السيدات اللائي ينجبن أطفالا إلى 30.3، وزاد معه عدد السيدات اللائي لا يرغبن في الإنجاب. وتقول سارة هاربر، أستاذة علم الشيخوخة بجامعة أوكسفورد، ومديرة المعهد الملكي ببريطانيا العظمى: "وصلت الكثير من الدول أو كادت تصل إلى مستويات الإحلال، أي لا تحقق معدل نمو سكاني".
وقد تواجهنا معضلة أخلاقية أخرى، فإذا لم يتوفر هذا العلاج، الذي يعيد عقارب الزمن إلى الوراء، للجميع على حد سواء، فقد ينقسم المجتمع إلى طبقتين، بحسب القدرة على توفير ثمن العلاج، وهذا قد يعمّق هوة التفاوتات الاجتماعية الموجودة في العالم بالفعل.
تقول فولكينغام: "إن حظوظ الطفل الذي يولد في أزقة العاصمة الكينية، نيروبي، في الحياة تختلف كثيرا عن حظوظ نظيره المولود في حي كينسنغتون بلندن".
وفي الوقت نفسه، إذا وُزع الدواء الذي يطيل العمر على الناس بالتساوي، سنواجه تبعات زيادة نسبة المسنين في المجتمعات.
وكانت المعمّرة الأطول عمرا هي جين كالمان من فرنسا، التي عاشت 122 عاما، من عام 1875 إلى 1997. والغريب أنها لم يتخطاها أحد في العمر حتى الآن، رغم تطور الرعاية الصحية منذ ذلك التاريخ.
وربما تكون العوامل الوراثية هي التي تهيّء الإنسان للموت عند سن معينة. ويقول دي كيزر: "زعمت ورقة بحثية نشرت في عام 2016 أن الإنسان قد لا يعمّر أكثر من 120 عاما".
ولكن البعض كان له رأي مخالف. إذ يرى الدكتور أوبري دي غراي، أستاذ بمؤسسة أبحاث "سينس" لاستراتيجيات القضاء على الأمراض المصاحبة للشيخوخة، أن عمر الإنسان قد يطول قريبا إلى حد غير مسبوق ليصل إلى ألف عام. ولكن فولكينغام تقول: "هذا رأي لا يتفق معه الكثيرون".
ويعاني الكثير من المسنين من أمراض مثل السرطان، وأمراض القلب والخرف وغيرها. ولهذا فإن أغلب الأبحاث الطبية في الوقت الحالي لا تهتم بإطالة عمر الإنسان بقدر ما تهتم بسبل الحفاظ على صحة جيدة لأطول فترة ممكنة، وتأخير ظهور علامات الوهن والأمراض مع تقدم العمر.
وتقول هاربر: "من الأفضل أن نوجه جميع الموارد ليعيش الجميع عمرا طويلا ويتمتعون بصحة جيدة."
ورغم أن أدوية استعادة الشباب والحيوية تعالج الأعراض البدنية للشيخوخة، ولا تعالج الأعراض الذهنية والعصبية المصاحبة لها مثل الزهايمر والخرف، فإن عدد حالات الخرف المسجلة آخذ في الانخفاض.
وتقول هاربر: "تقترح إحدى النظريات أننا كلما حافظنا على نشاطنا البدني، تأخر ضعف وتدهور وظائف الجسم، وقياسا على ذلك، يرى البعض أن المواظبة على الأنشطة الذهنية تقينا من الخرف".
يختلف متوسط العمر المتوقع للأطفال المولودين في أزقة كينيا تماما عن متوسط العمر المتوقع لنظرائهم المولودين في المدن الغنية في الغرب
ومن جهة أخرى، إذا طالت الأعمار وتحسنت الصحة، لن يقف العمر الزمني، مع مرور الوقت، عائقا أمام خوض تجارب جديدة في الحياة. فقد تجد الأن سيدات في الأربعين من عمرهن يخضن تجربة الإنجاب للمرة الأولى، في حين توجد سيدات أخرى في نفس السن يصبحن جدات. ورغم اشتراكهن في السن، فإن حياتهن مختلفة تماما.
ورغم ارتفاع معدلات الأعمار في الوقت الحالي، لا تزال الأنشطة التي تؤثر على النمو السكاني تتركز في سن العشرينيات والثلاثينيات، فنحن ننجب الأطفال ونبدأ حياتنا المهنية في هذين العقدين.
تقول فالكينغام: "نحن لم نغير النظام البيولوجي لأجسامنا، حتى بعد ارتفاع متوسط العمر المتوقع، فلا تزال النساء تنجب أطفالا في العشرينيات والثلاثينيات".
فضلا عن أن علاجات الحفاظ على الشباب والحيوية باهظة الثمن. وبافتراض إجازة العلاج المقترح بمركب "Foxo4-DRI" للاستخدام الآدمي، فإن تكلفة عشرة ملليغرامات فقط منه قد تصل إلى بضعة آلاف من اليورو تقريبا.
وماذا عن نقل الدم؟ إن العرض محدود للغاية، فإن عدد المتبرعين بالدم لا يتعدى أربعة في المئة من سكان المملكة المتحدة، وهذا يفوق ما يحتاجه مجالا الطب والأبحاث بواحد في المئة فقط. وربما لن يوافق جميع هؤلاء المتبرعين على التبرع بالدم للقضاء على علامات تقدم العمر.
كما أن قلة عدد المتبرعين قد تفسح المجال لظهور سوق سوداء، يُرغم فيها الشباب أو يُكرهوا على تقديم دمهم، ناهيك عن مخاطر وجود تجار غير شرعيين يبيعون بلازما زائفة، أو بلازما لا تصلح للنقل إلى شخص أخر.
ربما يبدو هذا الاحتمال مخيفا إلى أقصى حد، ولكن المجال الصحي برمته، في حقيقة الأمر، قد أصبح هدفا مربحا للجرائم المنظمة.
وقد ذكرت وكالة الشرطة الأوروبية "يوروبول"، في تقييم أخير عن مخاطر الجرائم الخطيرة والمنظمة: "إن توزيع منتجات صيدلانية مقلّدة عبر الإنترنت يمثل خطورة كبيرة".
وفي حملة أخيرة صادرت السلطات أدوية تمثل خطورة محتملة بلغت قيمتها 45 مليون جنيه استرليني.
لعلنا سنحتاج إلى قفزة هائلة في فهمنا للعلوم البشرية لكي نمنع أعراض الشيخوخة تماما، وحتى تأخير ظهورها يبدو عسيرا للغاية. ولابد أن يُحسم الجدل في القضايا الأخلاقية والثقافية والإجتماعية المترتبة على القضاء على الشيخوخة.
وتقول هاربر: "علينا أن نتقبل أن حياتنا ستنتهي يوما ما وأننا نعيش كل مرحلة من حياتنا في وقتها. ومن الأفضل أن نحشد جميع مواردنا لكي يعيش الجميع حياة طويلة وخالية من الأمراض، بدلا من أن ننفق أموالا ليعمّر قلة من الناس لمئات السنوات".