رؤية شرعية في مسألة عصرية .. يــــــوم الأم



اختار العرب أن يجعلوا اليوم الأول من فصل الربيع الموافق الحادي والعشرين من آذار من كل عام يوما للأم، وهذا اليوم ليس عالميا؛ بل هناك اختلاف في اختيارات الشعوب ليوم الأم، ففي العالم العربي يوم الحادي والعشرين من آذار، وفي النرويج الثاني من شباط، وفي الولايات المتحدة يكون الاحتفال في الأحد الثاني من شهر مايس من كل عام، وهذا يدل على أنَّ هذا اليوم ليس له صلة دينية بدين ما، بل هو تقليد اجتماعي.
ومن وجهة نظر الشرع؛ يرى بعض العلماء أنَّ الاحتفاء بيوم الأم جائز لمكانةِ الأمِ ولعدم وجود ما يمنع ذلك في شريعتنا، وبعضهم يحرمه لأنَّ فيه ابتداعًا لعيد جديد وفيه ذوبانًا لشخصية المسلم في الحضارات الأخرى وفيه تشبهًا بالكفار، وهنا لا بدَّ من تقريرات لمسائل:
الأولى: لا يمكن أن نقبل هذا اليوم (يوم المرأة) عيدًا من أعيادِنا الدينية لأنَّ الدينَ قد تم، وشريعة الله والحمد لله كاملة من جميع الوجوه كما قال الله تعالى )الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً)، سورة المائدة: الآية (3)، والكامل لا يحتاج لأنْ نزيد فيه.. وأعيادنا الدينية عيدان؛ فلما قَدِمَ رسول اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا، فقال: ما هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟ قالوا: كنا نَلْعَبُ فِيهِمَا في الْجَاهِلِيَّةِ، فقال رسول اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) (إِنَّ اللَّهَ قد أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا يوم الْأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ)، أخرجه أبو داود، فلا مجال لزيادة عيد ديني على هذين العيدين.
فالعيد الديني هو المناسبة التي شرعها الله (عز وجل) للسرور الشرعي، وهي مسألة توقيفية يحددها الشارع ولا يحق لنا أن نضيف أو نحذف، لذا حددت للعيدين طقوسٌ وأحكامٌ وسنن وآداب، وهو لأجل السرور وترافقه بعض الرخص الشرعية، لذا ورد عن عَائِشَةَ وصفٌ ليوم عيد مع النبي (صلى الله عليه وسلم) فقالت (رأيت النبي (صلى الله عليه وسلم) يَسْتُرُنِي وأنا أَنْظُرُ إلى الْحَبَشَةِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ في الْمَسْجِدِ فَزَجَرَهُمْ عمر، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): دَعْهُمْ…)، صحيح البخاري، وفيه جواز اللعب بالسلاح ونحوه من آلات الحرب في المسجد، ويلتحق به ما في معناه من الأسباب المعينة على الجهاد وأنواع البر.
وفسرت عائشة رضي الله عنها في رواية أخرى كيفية ستر النبي (صلى الله عليه وسلم) لها فقالت (وَضَعَ رسول اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ذقني على مَنْكِبَيْهِ لأَنْظُرَ إلى زَفْنِ الْحَبَشَةِ حتى كنت التي مَلِلْتُ فَانْصَرَفْتُ عَنْهُمْ)، مسند أحمد بن حنبل فكانت تقف خلفه واضعة حنكها على كتفه، والرواية تشعر بطول المدة؛ حتى كان عائشة رضي الله عنها هي التي ملت، ثم قالت: قال رسول اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَئِذٍ (لَتَعْلَمُ يَهُودُ أنَّ في دِينِنَا فُسْحَةً، إنِّي أُرْسِلْتُ بِحَنِيفِيَّةٍ سَمْحَةٍ)، مسند أحمد بن حنبل.
فوقوف عائشة رضي الله عنها خلفه (صلى الله عليه وسلم) وذقنها على كتفه تنظر إلى زفن (رقص) الحبشة في المسجد من رخص العيد التي شرعت لممارسة اللهو البريء فسحة في الدين وهو من سماحته وموافقته للفطرة.
الثاني: لا يرضى لنا ديننا أن تذوب شخصيتنا في شخصية الآخر، بل نحن مدعوون لتوطين أنفسِنا على الإحسان وعدم الذوبان. فلا ينبغي للمسلم أن يكون إمَّعَةً تابعًا لغيره ذائبًا فيه، بل يتميز بشخصيته السائرة وفق مقتضى شريعة الله تعالى حتى يكون متبوعًا لا تابعًا كما قال رسول اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) (لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ إن أَحْسَنَ الناس أَحْسَنَّا وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إن أَحْسَنَ الناسُ أَنْ تُحْسِنُوا وَإِنْ أساءوا فلا تَظْلِمُوا)، رواه الترمذي.
والإمعة: الذي يتابع كل ناعق ويقول لكل أحدٍ أنا معك لأنَّه لا رأي له يرجع إليه. وتوطين النفس يعني جعل النفس ممهدةً للأمر ومتهيئةً لفعله، فنحن مأمورون بتوطين نفوسنا على مخالفة الظالم والمسيء وعدم متابعتهما. وتفسير التوطين يحتاج إلى تأمل فهو يدعو إلى المشاركة في الإحسان والاعتزال في الظلم والإساءة. وليس كما فهم البعض أنه مطلق المخالفة والاعتزال للآخر.
الثالث: يمكن أن نفرق بين يوم العيد الشرعي الذي يعني يوم السرور الشرعي، ويوم المناسبة الاجتماعية أو التاريخية التي تحمل المعنى الشرعي؛ أو المعنى الذي لا يتقاطع مع الشريعة، فتصف عَائِشَةُ رضي الله عنها عن يوم عيد شرعي؛ دخل عَلَيّها فيه أبو بَكْرٍ (رضي الله عنه) وَعِنْدها جَارِيَتَانِ من جَوَارِي الْأَنْصَارِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاوَلَتْ بِهِ الْأَنْصَارُ يوم بُعَاثَ، قالت: وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ. فقال أبو بَكْرٍ: أَبِمَزْمُورِ الشَّيْطَانِ في بَيْتِ رسول اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)؟ وَذَلِكَ في يَوْمِ عِيدٍ، فقال رسول اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) (يا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا وَهَذَا عِيدُنَا)، رواه البخاري. وفي هذا الحديث أحكام فقهية من المناسب عرضُ بعضها:
 جواز الغناء بحدوده الشرعية في العيد الشرعي، وندب إظهار الفرح والسرور الشرعي في هذه الأيام، ولم يكن الغناء هنا فاحشا يهيج النفوس إلى أمور لا تليق، ولهذا جاء في وصف الجاريتين “وليستا بمغنيتين” يعني لم تحترفا الغناء وتتخذاه صناعة وعادة.
 جواز الاحتفاء بالأيام التاريخية قبل الإسلام إذا كانت لا تتعارض مع الشريعة (وهذا قريب مما يسمى اليوم بالعيد الوطني) لأنَّ الجاريتين كانتا تنشدان ما تقاول شعراء الأنصار يومَ بُعاث.. ويومُ بُعاث يوم مشهور من أيام العرب قبل الإسلام؛ كانت فيه مقتلة عظيمة للأوس على الخزرج وهو من أيام حربٍ كانت قبل الإسلام وبقيت قائمةً مائة وعشرين سنة.
فالمناسبات التي لا تتقاطع مع الشريعة ليست أعيادًا كالأعياد الدينية، بل هي مناسبات تاريخية أو اجتماعية أو وطنية، وهي ليست مقدسةً كالعيد الديني ولكنها محترمة ومعتدٌّ بها لما تمثله من معانٍ سامية في نفوس من يعتز بها.
وعليه: لا يجوز في عيد الأم، إحداث شيء من شعائر العيد الدينية؛ ولكن لا بأس بإظهار معاني تحتاج الأمة لأحيائها في نفوس الجيل، والاحتفاء بها أولى من الاحتفاءِ بيوم بعاث الذي كان في الجاهلية، فهي أحقُّ مَن يحتفى بها، وهي تستحق حفاوة العمر وليس يومًا واحدًا في السنة.
وهي لها الحق على أولادها أن يرعوها، ويعنوا بها، ويقوموا بطاعتها في غير معصية الله (عز وجل) في كل زمان ومكان، وبرها يقدم على كل بر بعد توحيد الله (عز وجل)، جاء رَجُلٌ إلى رسول اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فقال (يا رَسُولَ اللَّهِ مَن أَحَقُّ الناسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قال: أُمُّكَ. قال: ثُمَّ من؟ قال: ثُمَّ أُمُّكَ. قال: ثُمَّ من؟ قال: ثُمَّ أُمُّكَ. قال: ثُمَّ من؟ قال: ثُمَّ أَبُوكَ)، رواه البخاري.
وربما يكون إظهار الاحتفاء بالأم في هذا اليوم من توطين النفس على الإحسان ومشاركتهم فيه كما تقدم في الحديث، فلا بأس بتخصيص يوم لها مع تعميم برها على كلَّ الأيام.
وأما التشبه الذي نهينا عنه؛ فليس في الأمور العادية (الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ونحو ذلك) بل نحن ممنوعون من التشبه بما هو من خصائص دياناتهم، ودليل هذا سماحه (صلى الله عليه وسلم) للحبشة أن يتشبهوا بقومهم في الرقص في مسجده كما مر؛ وقومُهم يومئذٍ غيرُ مسلمين.
والابتداع الذي حذرت منه الشريعة هو الابتداع في الدين وليس في الأمور العادية، فتشبيه المناسبات الدنيوية بمناسبات دينية وقياسها عليها في باب البدعة لا يصح، بل هو من أمور الدنيا التي يجوز فيها الابتداع والتشبه.
وفي هذا اليوم ينبغي أن نتذكر أمورًا تتصل بيوم الأم:
 نتذكر الأيتام الذين فقدوا الأمهات وحرموا من هذا الحنان والعطف، فنبذل لهم عطفنا وحبنا عسى أن يعوضهم ذلك عن بعض ما فقدوه بسبب يتمهم، وحتى لا تجرح مشاعرهم لفقد أمهاتهم.
– ونتذكر الأمهات النبيلات اللاتي فقدن الأبناء في بلدنا الجريح وغيره من بلاد المسلمين؛ بسبب أجرام الاحتلال والإرهاب والميليشيات؛ فلم يكن لهن من يستذكر دورهن من الأبناء، وندعو الله لهن ولمن فقدْنَ من الأبناء بالرحمة والرضوان.
– ولا بأس في هذا اليوم أن نستذكر عقوق بعض المحسوبين على الأمة لأمهات المؤمنين وإيذائهم له (صلى الله عليه وسلم): (النَّبِيُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً)، سورة الأحزاب: الآية (6) فردُ هذا العقوقِ فيه إرضاءٌ لرسول الله (صلى الله عليه وسلم).
وقوله تعالى (النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مّنْ أَنفُسِهِمْ) يعني في كل شيء من أمور الدين والدنيا، والنص أطلِق ولم يقيد فيجب علينا إن كنَّا مؤمنين أن يكون (صلى الله عليه وسلم) أحبّ إلينا من أنفسنا؛ وأن يكون حكمه أنفذ علينا من حكم أنفسنا؛ وحقه آثر لدينا من حقوقنا.. فقد قال (صلى الله عليه وسلم) (أنا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ من أَنْفُسِهِمْ فَمَنْ تُوُفِّيَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ)، رواه مسلم.
وقوله (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) أي تحريم نكاحهن من بعده على المؤمنين كحرمة الأُم؛ واحترامهم لهن كاحترام الأُم، وفي التوقير والإكرام وتعظيم حقهن، ولو أراد تحريم نكاحهن من بعده فقط، لقال (وأزواجه أزواج أبيهم) فيحصل المعنى في تحريم نكاحهن.
وليتنا كنَّا بإنصاف عمار (رضي الله عنه) لَمَّا بَعَثَه عَلِيٌّ وَالْحَسَنَ إلى الْكُوفَةِ لِيَسْتَنْفِرَهُمْ؛ فخَطَبَ عَمَّارٌ فقال (إني لَأَعْلَمُ أنها زَوْجَتُهُ في الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ ابْتَلَاكُمْ لِتَتَّبِعُوهُ أو إِيَّاهَا)، رواه البخاري، وهكذا التدين الحق بلا شتم ولا طعن يؤذي النبي (صلى الله عليه وسلم).
فهل راعى بعض المنتسبين للأمة اليوم هذه الأمومة؟ ولماذا هذا العقوق لأمهاتنا والإيذاء له (صلى الله عليه وسلم) في أهله؟ وهل يجوز أن نرد آية محكمة بخرافات وأكاذيب؟