"أجاثا كريستي" أو ملكة الروايات البوليسية، أو أفضل كاتبة لقصص الجريمة في التاريخ، أو الكاتبة الوحيدة التي تم نشر نعي حقيقي لوفاة أحد أبطال قصصها الخياليين في "النيويورك تايمز".
جميع هذه الألقاب استحقتها "أجاثا"، أو ربما المزيد.
لن أكتب اليوم مراجعة لإحدى قصصها، فلا حاجة لي بذلك، أريد الكتابة عن إسهامات "أجاثا" في الأدب، وإضافاتها القيمة التي ربما قد ظُلمت فيها "أجاثا"؛ حيث أنني لم أجد مَن ذكر هذه الأمور في حقها بشكل كافٍ وصريح.
أولاً: حقيقة أن روايات "أجاثا كريستي" يغلب عليها طابع الاحتشام والبعد عن الابتذال والنقاء، وفي ذلك دلالة واضحة على كرم المحتد وطيب المنشأ.
وفيه دلالة أخرى، وهي أن لدى "أجاثا" من الثقة ما يجعلها تشق طريقها في الكتابة بعيداً عن الخوض في هذا المستنقع الموحِل؛ حيث إن من الكتّاب من يبرر سباحته في هذا المستنقع بأن التطرق إلى هذا الجانب المبتذل هو جزء أساسي في بناء الرواية، وبأن القرّاء يعنيهم هذا الجانب ويهتمون به كثيراً، وهي تبريرات واهية تدلّ على ضعف مَلَكة الكتابة لدى الكاتب، وزيف قدرته على صنع حبكة مشوقة، مما يدعوه إلى اتباع الطريق الأسهل في جذب القارئ، ومنهم مَن يبرر ذلك بأنه متمرد على التقاليد البالية، ومستعصٍ على الأعراف الموضوعة، وكأن التمرد والاستعصاء لا يمكن ترجمتهما إلا بالابتذال.
لكن المؤسف حقاً هو أن هذا الطابع المحتشم قد فُقد الآن، أو بالأحرى لم يحصل لي شرف اللقاء به في أي من روايات الكتّاب العرب، وهذا سبب ابتعادي عن الروايات العربية، إلا ما رحم وعلى مضض.
باختصار فإن "أجاثا" قد بنت مدرسة أدب روائي لائقة ومحترمة مكنتنا من ارتيادها أنا ووالدي، الذي تقاسمت معه حب قراءة رواياتها من الصف السادس ابتدائي، بأريحية دون حرج أو تحفظ، أو غض بصر.
ثانياً: حقيقة أن "أجاثا" قد ساهمت بشكل كبير في تغيير الصورة النمطية للكتّاب المؤثرين التي حُصرت في أن الكاتب يجب أن يكون قد عاش طفولة بائسة أو خرج بعلاقة حب فاشلة،
أو أصابه مرض نفسي شديد، أو تعرض لعنف أسري أو انتهى به الحال بالانتحار، حتى يستطيع الكتابة بهذا المستوى من التأثير، وأن تصبح اقتباساته خالدة على مر الزمن.. فهي قد عاشت طفولة سعيدة إلى أبعد حدّ كما تحب أن تصفها، وكانت والدتها امرأة ذات شخصية ساحرة وقوية هي التي شجعتها على البدء بالكتابة، وبالرغم من أن زواجها الأول الذي منحها لقب "كريستي" كان زواجاً فاشلاً، فإنها تعافت من تلك المرحلة، وتزوجت مرة أخرى من عالم آثار كان له الفضل الكبير في زيارتها للعديد من المواقع التي ذكرتها "أجاثا" بتفاصيل دقيقة في رواياتها.
أما اليوم فقد بتنا نشهد على أن بعض الكتّاب - الشباب خصوصاً- أمسى يفتعل لشخصه حالات نفسية بائسة، ويعيش نفسه في ظروف أسرية صعبة ويظهر سخطه الدائم غير المبرر على أفراد المجتمع؛ حتى يوهم القارئ بأنه استطاع تحويل المحنة إلى منحة، وإلى آخر هذه العبارات الرنانة الفارغة... والقصد في النهاية هو جذب القارئ بأرخص الوسائل.. الجميع يلهث وراء رف "الأفضل مبيعاً" في المكتبات بغض النظر عن الثمن الذي يُضطرون إلى دفعه، الجميع أقصد بذلك الكاتب والقارئ، وأنه لمن الإجحاف والظلم من قِبل القارئ أن يعتبر "مدى بؤس حياة الكاتب" كمعيار ومؤشر لتأثير ونجاح الكاتب والكتاب.
أنا لا أقلل من كفاح أولئك الكتّاب -الراحلين خصوصاً- الذين استطاعوا التعايش مع ظروفهم السيئة، وتمكنوا من الكتابة بصدق وواقع كما أني أكبر فيهم ذلك، فقد كان بإمكانهم سلك الطريق الأسهل والقعود عن مهنة الحياة، إلا أنهم آثروا أن يُسمع صدى أفكارهم على الأقل قبل حلول النهاية، لكن ما أستغربه من الكتّاب الحاليين هو بالرغم من أوضاعهم العادية فإنهم يصرون على التلبس بـ "هالة الكآبة" وارتداء "رداء الحزن" ووضع "قناع اليأس" حتى يقارعوا الكتّاب السابقين في تأثيرهم وخلودهم.
ولهم في خلود أثر "أجاثا كريستي" خير مثال.