أحداث معركة ذات الصواري [1]:

نتيجة لانتصارات المسلمين في البحر المتوسط خشي الإمبراطور البيزنطي من تعاظم القوة البحرية الإسلامية، التي سوف تُشكِّل خطرًا مباشرًا على الوجود البيزنطي في الحوض الشرقي لهذا البحر، بالإضافة إلى تهديد القسطنطينية، كما ترامت إلى مسامعه أخبار الاستعدادات الضخمة البرية والبحرية التي يقوم بها معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه لغزو القسطنطينية، لذلك كان لا بُدَّ من مواجهة الموقف بتحطيم هذه القوة الإسلامية النامية في مهدها، وعندما علم عثمان بن عفان رضي الله عنه بنوايا البيزنطيين المعادية أمر معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بإعداد أسطولٍ ضخمٍ من السفن، ويحشد الجنود والعتاد إلى جانب حشدٍ بريٍّ ضخم، تمهيدًا لتسيير حملةٍ برية بحرية لمهاجمتهم، وتُشير روايات المصادر إلى أنَّ معاوية بن أبي سفيان خرج من دمشق مع أهل الشام في عام "34هـ=654م" على رأس الحملة البرية، وأبحرت في الوقت نفسه السفن من ميناء طرابلس بقيادة بُسر بن أبي أرطأة رضي الله عنه، وانضمَّت إلى الأسطول القادم من مصر بقيادة عبد الله بن سعد بن أبي سرح رضي الله عنه، واجتمع الأسطولان بساحل مدينة عكَّا وانطلقا باتجاه الشمال، وبلغ تعداد الأسطول الإسلامي مائتي سفينة ونيِّف[2].

وصل معاوية بن أبي سيفان رضي الله عنه بقواته إلى قيصرية في كبادوكيا بآسيا الصغرى، في حين كانت السفن الإسلامية تقترب من مياه الدولة البيزنطية عند الساحل الجنوبي لآسيا الصغرى، ومن جهته خرج الإمبراطور البيزنطي من عاصمته على رأس أسطوله الذي تراوح عدد سفنه بين خمسمائةٍ وألف، بحيث "لم يجتمع للروم مثله قط منذ كان الإسلام"[3].

التقى الأسطول الإسلامي والأسطول البيزنطي قرب شاطئ ليكيا عند ميناء فوينكس في "شهر محرم عام 34هـ= شهر يوليو عام 654م"، وخشي المسلمون من أن تكون الغلبة لعدوهم؛ إذ هالهم الأسطول البيزنطي، ولم يكن قد سبق لهم أن خاضوا معركةً بحريةً ضدَّ أسطولٍ ضخمٍ كهذا، وقد عبَّر أحد المقاتلين المسلمين -وهو مالك بن أوس بن الحدثان- عندما شاهد ضخامة الأسطول البيزنطي بقوله: "فالتقينا في البحر، فنظرنا إلى مراكبٍ ما رأينا مثلها قط"[4].

أجرى المسلمون اتصالًا مع البيزنطيين قبل بدء القتال، وعرضوا عليهم أن يكون القتال على الساحل، وإن شاءوا فالبحر، ففضَّلوا القتال في الماء لثقتهم بقدرتهم القتالية في البحر من جهة، ونظرتهم إلى المسلمين على أنهم بدو يُجيدون ركوب الجمال والقتال في البر من جهةٍ أخرى[5].

نفذ الإمبراطور البيزنطي الذي قاد المعركة بنفسه خطة ذكية لإنهاك المسملين بأن دفعهم لرمي البيزنطيين بالسهام والقسي حتى نفدت ذخيرتهم، ولم يُحاول الاقتراب بسفنه من السفن الإسلامية، فاضطر المسلمون بقذفهم بالرماح والحجارة، عند هذه المرحلة من أحداث المعركة اطمأنَّ الإمبراطور البيزنطي على سلامة وضعه العسكري، وظنَّ أنَّ الانتصار بات من نصيبه، وأنَّ البيزنطيين لن يحتاجوا إلا إلى هجمةٍ واحدةٍ حتى يُحطِّموا الأسطول الإسلامي، وردَّد قوله: "غلبت الروم". لكنَّ المسلمين غيَّروا خطة القتال عندما نفدت ذخيرتهم، فربطوا سفنهم إلى بعضها، واصطفوا على ظهورها متسلِّحين بالسيوف والخناجر، وقذفوا السفن البيزنطية بالخطاطيف والكلاليب وجذبوها إليهم، وبذلك تحولت ظهور السفن إلى ميدان قتال، فحوَّلوا بذلك المعركة البحرية إلى معركة أقرب ما تكون إلى المعارك البرية، وأمام هذا التغيير السريع والمفاجئ في سير المعركة ارتبكت القيادة البيزنطية وفقدت السيطرة على عوامل الانتصار، بل أيقن الإمبراطور حينئذٍ بأنَّ الهزيمة ستحلُّ بقوَّاته من واقع أنَّ المسلمين أكثر ثباتًا في قتالٍ من هذا النوع، استغلَّ المسلمون تضعضع القوَّة الميدانية للبحرية البيزنطية، والفوضى التي بدت في صفوف البيزنطيين؛ حيث كانوا "يقاتلون على غير صفوف"، فوثبوا إلى السفن البيزنطية وقاتلوا البيزنطيين قتالًا شديدًا وانتصروا عليهم، وأُصيب الإمبراطور بجراح وفرَّ من مكان المعركة[6].

أمَّا تسمية المعركة بذات الصواري فتعود على الأرجح إلى كثرة عدد صواري السفن التي اشتركت في المعركة، على الرغم ممَّا يُستدلُّ من رواية الطبري بأنَّ ذات الصواري اسمٌ للمكان الذي جرت فيه المعركة[7].



نتائج معركة ذات الصواري:

- أكد هذا الانتصار قوة المسلمين البحرية النامية، وقارن المؤرخون بينها وبين معركة اليرموك البرية.

- تُعدُّ هذه المعركة من المعارك الحاسمة في التاريخ الوسيط؛ لأنَّها حوَّلت العلاقات الإسلامية البيزنطية نحو اتجاهٍ جديدٍ في الحوض الشرقي للبحر المتوسط؛ إذ إنَّها عُدَّت المدخل الذي أطلَّ منه المسلمون على العالم الوسيط كقوةٍ بحريةٍ منافسةٍ في المنطقة.

- تخلَّى الإمبراطور البيزنطي قنسطانز ومن جاء بعده من الأباطرة عن فكرة طرد المسلمين من الأراضي التي فتحوها في شرق البحر المتوسط، والاكتفاء بتأمين الدفاع عن الأراضي البيزنطية في الجبهة الجنوبية من آسيا الصغرى.

- أفاد هذا التغيير في الخطط العسكرية البيزنطية الدولة الإسلامية في وقتٍ دخلت فيه في دور من القلق والنزاع الداخلي بسبب مقتل عثمان بن عفان، والحرب الأهلية بين عليِّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما؛ حيث ساد الهدوء العلاقات العسكرية بين الجانبين.

- أضاعت هذه المعركة آخر فرص البيزنطيين لاستعادة مواقعهم في بلاد الشام ومصر؛ حيث كان اعتمادهم على التفوق البحري.

كتاب تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية للدكتور راغب السرجاني .
________
[1] الصواري: جمع صارية، وهي الخشبة المعترضة وسط السفينة.
[2] ابن عبد الحكم: ص321، والطبري: 4/290.
[3] الطبري: المصدر نفسه.
[4] المصدر نفسه: ص291.
[5] المصدر نفسه: ص290.
[6] الطبري: 4/291، 292.
[7] تدمري: تاريخ لبنان: ص69.