يهود الموصل .... بين التاريخ والسياسة
التي أريد لها ان تكون تاريخا
بقلم : اسامة غاندي
هذه مقالة اجتماعية تاريخية جغرافية الى حد ما ، حول اليهود في الموصل ، وهي قراءة غير سياسية وغير موجهة ولا تتبنى وجهة نظر معينة ، بقدر ما تقرأ واقع الموصل الثقافي والتراثي في حقبة زمنية معينة ،مع اقلية دينية عاشت في الموصل والقت فيها بعض حمولتها الاجتماعية والثقافية .
وهذه الدراسة تأتي ضمن حلقات ، تشمل مكونات اجتماعية ودينية وعرقية سكنت الموصل ، مثل الاكراد والشبك واليزيدية ، ستكون متاحة لاحقا بإذن الله .
في سوق الصوافة في باب الطوب ، وفي منتصف الشارع ، كانت نسوةٌ يهوديات يفترشن الارض ، على شكل سلسلة احداهن وراء الاخرى ، ويعرضْنَ خدماتهن في خياطة الثياب على نحو سريع يكاد يكون فوريا يقودهم رجل كبير في السن يهودي ايضا ، هو من يُفَصِّلُ قطعة القماش ، ومن يقيس القماش على الزبون الواقف ، الذي اشترى لتوه قطعة القماش من بزازين يقابلون هذه السلسلة البشرية وهو من يتحاسب عنهم ، وهو مَنْ يدير عملية الادارة برمتها .
لكن كيف يعمل هؤلاء ؟؟ إنهن يعملْنَ بشكل تكاملي ، حيث يقوم هذا الرجل الكهل في المقدمة باخذ القياسات اللازمة للزبون الذي كان قد اشترى القماش لِتوِّهِ من البزاز المقابل ، ثم يُفصِل اجزاءه على البدن مباشرة ويقصه ، ثم يرمي بالاجزاء المفصّلة الى العاملات خلفه ، فيبدأن بحركة م****ة سريعة، كلٌ منهن ، بخياطة ما يُلقى اليها ، من ردن ، والى الثانية الصدر، والتالية الردن الاخرى، والتالية الجيوب والاخرى الازرار ، وهكذا الاخريات يخطنّ الاجزاء الاخرى لتنتهي الاجزاء المخيطة الى عاملة جالسة في آخر السلسلة فتجمع الاجزاء المخيطة وتوحدها وتربطها كلها وتنهيها على شكل ملابس جاهزة ، يلبسها الزبون من فوره . وهكذا ترى هذا الزبون الذي اشترى القماش ودفع ثمنه ثم فصله وارتداه ، قبل أن يرتد اليه عقرب الربع أو النصف ساعة بالكثير .
كان هذا يحدث في الشارع الذي يمتد من (( الصَوَّافَة )) شمالا باتجاه ساحة باب الطوب الداخلية وسوق العطارين وخانات دبغ الجلود ، في هذا الشارع الذي يتقاسمه بائعو الصوف والوبر والخز وتجارُه ، وبعض البزازين بائعو الاقمشة الخفيفة والملونة ، يتوسط الصوافين والبزازين فيه بضع دكاكين لصاغة فضة ، من الجانب الايمن ، وبعض بقالين يبيعون الدهن الحر ( السمن البلدي ) ، في الجانب المقابل، ويفصل بين بقالي السمن البلدي فسحة هي عبارة عن مدخل( جانبي ) الى سوق اللحم القديم ( الشارع الموازي لشارع الصوافة ) .وهما شارعان ، لاتمر فيهما المركبات الكبيرة والسيارات
زبائن هؤلاء العاملات يكونون عادة ، من ابناء الريف الذين ينزلون الى الحاضرة ( الموصل ) بعد فترات جني المحصول وتوفر السيولة النقدية ، ويتجهزون بالمواد الغذائية والتبوغ ، والشاي والسكر واليابسات ( البقوليات ) ، و يشترون ملابس لهم ولذويهم من الاطفال والنساء ، وبالمقابل ، فانهم ( اي ابناء الريف ) يجلبون ما لديهم من مشتقات حيوانية ، من صوف وسمن وشعر ماعز وبعض المحصولات البرية والاعشاب ، وما يمكن أن يكون سلعة قابلة للتسويق . ويتبضعون فيما يتبضعونه ايضا ، مخشلات ( عبارة عن اقراط او خلاخيل خفيفة وصغيرة تربط بها حبات خرز او غيرها ) ومصوغات فضية ، يطلبها ابناء الريف بوفرة ، فتكون في هذا السوق دورة اقتصادية شبه متكاملة يصرف ابن الريف ما عنده ويأخذ ابن الريف ما يحتاجه من بضائع وخدمات .
وطبيعي ان يكون هذا الريفي ، لا يملك امولا سائلة مثلا ،ليدفعها الى هذا الخياط اليهودي وفريقه ، لكن ذلك لن يشكل عقبة ، لان مشتري السمن البلدي من الفلاح ، سيصرف لهذا اليهودي نقوده لقاء شراء السمن ، او أن الصواف سيضمن لهذا حقوقه ، أو أن صائغي الفضة اليهوديين الوحيدين في السوق ، واللذّين سيبيعان الفلاح اقراطا او خلاخيل فضة ، سيضيفان حساب الخياطة الى القائمة التي سيسددها الصواف او السمان مثلا ، الذي اشترى بضاعة هذا الفلاح ، ولان الصائغين المذكورين ، هما اصلا امينا صندوق ، لهذا الفريق( الخياط ) ، وحيث يحتفظان لديهما بالدخل ويعتمدان عليهم في الصرافة كذلك. وكذلك فان ابناء الموصل الحاضرة ايضا يستعينون بهذا الفريق : الخياط ، في خياطة الاثواب والملابس الداخلية الرجالية ، وحتى الملابس الجاهوية الفخمة الموشاة ( المطخمة ) بالابريسم والحرير ، والتي تتطلب مهارة ودقة في الصنع ، كما أن الخدمات تشمل ايضا ، عملية رثي الثياب ، وصيانة بعض العباءات المصنوعة من شعر الماعز ، وعملية صيانة العقال واعادة ضبطه وشده . ولازالت المنطقة لحد الان ، تحوي الكثير من الخياطين الذين يخيطون الخيم ، والعباءات الثخينة المبطنة بالفرو والتي تسمى ( الحورانيات ) وحاويات الماء القماشية القديمة ، وهو على اغلب الظن مما ترسب من بقايا تلك الخدمة .
هذه الرواية لصورة كانت في العشرينيات وما قبلها وبعدها بقليل ، رواها لي جدي المولود سنة 1890، والذي كان يمتهن تجارة المواشي والاغنام ، ويدخل في صلب اهتمامه التجاري ، ما يتفرع من المواشي من جلود واصواف ولحوم ، وتعلقات علف ورعي وما شاكل ذلك . والتي تنتهي جميعا الى صلب اختصاص هذا السوق ونوعية مرتادية ومتسوقيه .
اقول هذا لكي اثبت سند هذه الرواية في الوقت الذي لاتتوافر لدي من المراجع والمصادر الا هذه الرواية . وأظن ان الاسناد الصحيح لها سيوفر لها بعض المصداقية التاريخية .
غير بعيد عن هذا المكان ، تقبع خانات ومحلات دباغة الجلود ، ومعها جمع امعاء الحيوانات المذبوحة وجمع شحومها ، ويُعرف العاملون بدبغ الجلود ( الدباغين )، والعاملون في تنظيف وتجفيف الامعاء ، بالوتارين ، وهي مهنة سبق اليها اليهود وبقوا فيها ، أما جمع الشحوم ومعالجتها وتخزينها في حاويات صغيرة بعد تجميدها بمعاملة كيمياوية ، فظلت حكرا على اليهود حتى وقت قريب قبل أن تُنشأ مصانع الزيوت ، ومن خانات الجلود والوتارين ، الى سوق العطارين حيث يتصدر المشهد عددٌ من العطارين والعشابين والصيادلة اليهود . الذين يتفننون في هذه الصنعة الى جانب عدد من العطارين الاخرين الذين يتولون عملية بيعها وشرائها فقط . وهم الذين ادخلوا المعالجة الكيمائية الى عملية الدبغ ، بعد ان كان الدبغ يعتمد في مجمله على التجفيف فقط مع اضافة قشور فواكه مجففة وتغطيتها بالملح .
ومن العطارين الى سوق الصّاغة ، الذي يتولى ادارته الفنية الصّاغة اليهود ، ويتحكمون الى حد ما بعملية العرض والطلب .
هذه الدورة الاقتصادية التكاملية المتسلسلة . تتوسط الحالة الاقتصادية الكبيرة التي تقوم عليها مدينة الموصل انذاك . يكون اليهود فيها سداها ولحمتها ، مع ملاحظة شديدة الاهمية ، أن اليهود في كل هذا لم يكونوا ملاكين للعملية ، بمعني لا يملكون رأسمالها المادي والسلطوي ، وكذلك لم يكونوا في اسفلها ، اي خارج الموضوع او يمكن الاستغناء عنهم في ادامة وتكامل هذه الدورة الاقتصادية ، لذلك فهم لبنة اساسية فيها ، اذا خرجوا انهارت العملية كلها ، وارتبك التخطيط . وهذه هي الفلسفة القصوى المختصرة لكيفية ادائهم الاقتصادي ، وترتيب وضعهم الاجتماعي ، بحيث لا يكونون فوق الكل ، ولا تحت الكل ، لكن الكل لا يستغني في عملية اقتصادية سلسلة ومريحة ومحسوبة عن خدماتهم . ربما تثير هذه الفقرة بعض الالتباس والاعتراض نتيجة سوء الفهم ، وهو هل أن غير اليهود لم يكونوا فاعلين وناشطين وحاضرين في الحراك الاقتصادي ، الجواب بالتأكيد كلا ، ولكن العينة الصغيرة قيد البحث ، تحتاج الى هذا التركيز على نقطة معينة ضمن دائرة اوسع .
يُقال أن اليهودية دين اقتصادي بحت ، كما كانت المسيحية دينا اخلاقيا بحتا ، فان صحت هذه المقولة او لم تصح ، فإن اليهود قد قربونا من فهم هذه المقاربة كثيرا